في مقهى "ليلى" في حارات دمشق القديمة اجتمع عشراتٌ من الناشطين وأهالي المغيبين وناشطي مدينة مصياف تلبية لدعوة عائلة وأصدقاء المناضل علي مصطفى (أبو صامد) في الذكرى الثانية عشرة لاختفائه قسراً بعد اعتقاله من قبل نظام الأسد في 2 يوليو/ تموز عام 2013. مرّ 12 عاماً على تغييب أبو صامد، واليوم ولأول مرة منذ تغييبه تستطيع العائلة والأصدقاء التجمع لتذكره والمطالبة بالحقيقة في سورية.
دعت كلٌ من ابنتيه وفا وسنا مصطفى إلى التجمع في ذكرى غياب والدهما وتذكيراً بآلافٍ لا يزالون مغيبين. وركّزت الدعوة على التذكير والمطالبة وحق الجميع في معرفة الحقيقة والمحاسبة باعتبار ذلك خطوة من خطوات العدالة الانتقالية المنتظرة في سورية بعد التحرير، إذ جاء في نص الدعوة "نرحب بالجميع لنحكي عن أبو صامد، وعن آلاف المغيبين، ونسترد ولو جزءاً من كرامتنا الجماعية بالتذكّر، بعد كلّ سنين النسيان والصمت الذي فرض علينا".
كتب أبو صامد عبارات على جدران فرع الأمن العسكري في دمشق (الفرع 215)، وهي عبارات تعرضت للطمس بعد توثيقها
دام اللقاء قرابة ساعتين، حيث أتيحت مساحة لأفراد عائلة أبو صامد لتذكره والحديث عنه لمعارفه وأصدقائه ورفاق النضال باستعادة ذاكرتهم المسلوبة والمحتجزة لسنوات طويلة، كذلك أتيحت مساحة لأهالي المغيبين لاستحضار ذاكرة الغياب واسترجاع صور المختفين عبر مشاركة قصصهم.
عبرت ابنتا أبو صامد كلّ من وفا وسنا عن مشاعرهما تجاه تغييب الأب وأثر الغياب على حياة كلّ منهما، وكيفية تعامل كلّ واحدة منهما مع فجوة الاختفاء القاسية، كذلك تحدثتا عن اختلاف طبيعة علاقة كل واحدة منهما بأبي صامد الأب، وإلى جانبه تحدثت الزوجة والأم لمياء عن ذكرياتها الأخيرة ما قبل الاعتقال وعن صراعها باعتبارها زوجة مغيب محرومة من حق معرفة الحقيقة حتى هذه اللحظة.
كذلك شارك أصدقاء أبو صامد قصص نضاله في لبنان ونضاله تجاه القضية الفلسطينية وضد الغزو الأميركي للعراق ونشاطه السياسي في سورية وخصوصاً في مدينته مصياف الذي يتحدر منها وشاركها مع رفيق دربه حسام الظفري الذي يشاركه الغياب، وشارك الناشط جمال العمر (مطر إسماعيل) نصاً أهداه لكلّ من أبو صامد وحسام الظفري، وكذلك شاركت المناضلة منذ الثمانينيات ندى الخش موقفها من قضية الاختفاء القسري والعدالة الانتقالية ودعت لاستمرار النضال، محملة على عاتق الجيل الجديد عملية البناء على أسس صحيحة وعدم الوقوع في أخطاء جيل قمعه نظام الأسدين.
قبيل الدعوة شاركت العائلة على مواقع التواصل الاجتماعي صوراً التقطت بالصدفة أو بالأحرى تم الوصول إليها قبل طمسها، وهي عباراتٌ كتبها أبو صامد على جدران فرع الأمن العسكري في دمشق (الفرع 215)، حيث تقول إحدى الجمل المتروكة "سامحوني"، ذاكراً أسماء فتياته الثلاث بجانب العبارة، ولفتت العائلة إلى خطورة الإجراءات التي اتبعتها الحكومة المؤقتة تجاه ملف المعتقلين، ومنها طمس معالم الجريمة عبر دهن جدران السجون بحجة إعادة التأهيل.
بعد مشاركة الحضور قصصهم ومشاعرهم ومطالبتهم باستمرار النضال، علقت على لوحٍ قماشيٍّ صور متنوعة لأبو صامد، وتوجه الحضور لتعليق صور أحبائهم المختفين وكتابة العبارات عن مشاعرهم ومطالبهم.
في شهور التحرير الأولى امتلأت الساحات بصور المغيبين على جدران الجامع الأموي وفي ساحة المرجة والحجاز، ويوماً بعد يوم تطمس هذه الصور وتغطى بحجة إعادة التأهيل
منذ سقوط النظام السوري السابق واستعادة الناس ملكية الساحات العامة لم تتوقف مطالب ومساعي أهالي المفقودين والناشطين والمؤسسات التي تعنى بقضية المغيبين، فلا يخلو أسبوع من وقفة صامتة أو مظاهرة احتجاجية ومؤتمرات وتجمعات للتذكير بالقضية التي تبدو اليوم شبه منسية، فبعد فتح السجون لا تبدو هناك مساع جدّية للكشف عن مصير قرابة الأربعمائة ألف مختفٍ لم يعرف مصيرهم بعد.
كما قال الناشط جاد حمادة في التجمع، وهو قريب مازن حمادة وأربعة معتقلين آخرين: "لعل الثورة السورية هي أكثر ثورة وثقت بالتاريخ، ولكن لم تحظ بنتيجة لتوثيقها حتى هذه اللحظة، كل الانتهاكات موثقة ولا يزال مصير الآلاف مجهولاً".
يوماً بعد يوم تصبح هذه التجمعات واللقاءات جزءاً من هامش الحياة اليومية المتسارعة في سورية الجديدة، يقف أهالي المغيبين وحدهم وسط الصمت، اكتسبوا حقّ الكلام الذي كان محبوساً على مدى أربعة عشر عاماً ولكنهم يقابلون بالصمت، يغدو الأمل ضعيفاً ويصبح هدف التجمعات، كما تقول والدة أحد المعتقلين: "المطالبة بعدم النسيان"، وكأن حق التذكر محصور فقط ضمن دوائر من تأثروا بالغياب.
في شهور التحرير الأولى امتلأت الساحات بصور المغيبين على جدران الجامع الأموي وفي ساحة المرجة والحجاز، ويوماً بعد يوم تطمس هذه الصور وتغطى بحجة إعادة التأهيل. يحاول بعض الناشطين وسط هذا التجاهل العام للقضية خلق مساحة دائمة للتذكر، مساحة تتيح حق المطالبة الذي لا يجب أن يزول، فأسس البعض تجمع "خيم الحقيقة"، هذه الخيم هي مشروع مستمر هدفه بناء خيمة في كل مناطق سورية تذكر بمعتقلي ومغيبي المنطقة وتكون حاضرة دوماً للتذكر.
حق المطالبة بالحقيقة هو ضرورة اليوم في سورية الجديدة للوصول لعدالة انتقالية، وحق المحاسبة هو حق مشروع، وعليه فإن هذه التجمعات ستستمر حتى تحقيق ولو جزء من الحرية التي ناضل المغيبون والمغيبات لاكتسابها. اكتسب الشعب السوري ملكية المساحات العامة، وكذلك لم يتوقف عن النضال للمطالبة بالحقيقة والقصاص والعدالة، فالتذكر كما قالت الناشطة وابنة أبو صامد يأتي عن طريق "الفعل"، وسيكون كفعل وكمطالبة لن تتوقف حتى ينكشف المصير، فلا أحد يشعر بقسوة الغياب وأثره إلا المقربون وأهالي المغيبين، هذا الفراغ عليه أن يمتلئ بالحقيقة فلا أم تستطيع التسليم بموت ابنها من دون التأكد سواء بوثيقة أو صورة أو دليل على مصيره، الغياب ثقل يجثو على صدور سوريين عديدين.