نزعات هوياتيّة حائرة... سورية البدايات نموذجاً
عربي
منذ ساعتين
مشاركة

في نهاية القرن التاسع عشر، ومع حالة الضعف والترهل في السلطنة العثمانية والتدخلات الأجنبية في العالم العربي، بدأت الأقليات الدينية تجد في الغرب ملاذاً آمناً وأملاً سياسياً فيها لتقوية وجودها طائفةً دينيةً ـ سياسيةً.
وصف محمد كرد علي ـ في كتابه "خطط الشام" ـ سلوك الأقليات السياسي في تلك المرحلة وصفاً معبّراً: "أمست دور القناصل محاكمَ دائمةً للنظر في قضايا من علّقوا آمالهم على الدولة التي تمثلها تلك الدار، وغدا قنصل روسيا مسيطراً على مسائل الروم الأرثوذكس، وقنصل فرنسا الحاكمَ المتحكّمَ في قضايا البابويين، وقنصل بريطانيا مهيمناً على البروتستانت والدروز. وغدا أهل كلّ نحلةٍ يجعلون من الدولة التي يمتون إليها معقدَ آمالهم، يدعون في أن يُقرّب أيام حكمها مباشرةً عليهم. ونزل كثيرٌ من الطوائف عن مشخصاتهم، فأصبحوا عرباً بالدم، متفرنجين بالتربية والعادات، يحتقرون ما كان عليه أجدادهم، ويغالون في اقتباس ما عند غيرهم.

 تلاقت أهداف الأقليات بالمصالح الفرنسية في عدم نشوء قومية عربية من شأنها أن تكون عاملاً موحّداً لسورية الطبيعية

مع انسحاب الجيوش العثمانية من سورية، ودخول الأمير فيصل بن الحسين دمشق عام 1918، وفي ظل الحضور البريطاني ـ الفرنسي، انتقلت الأقليات من مرحلة تعزيز وجودها أمام السلطة العثمانية إلى محاولة إنشاء كيان سياسي مستقل في حالتي العلويين والدروز، والرغبة في حكم فرنسي على سورية في حالة المسيحيين.
بحكم حالة الانعزال التاريخي على المستوى الاجتماعي والسياسي التي عاشتها الأقليات الدينية قبل الحكم العثماني وفي أثنائه، وجدت الطائفتان العلوية والدرزية أن ظروف الانتداب الفرنسي تشكّل فرصةً تاريخيةً استثنائيةً لتحقيق آمالهم على المستوى السياسي، باعتباره المكوّن الرئيس لنشوء كينونةٍ سياسيةٍ جمعيةٍ موحّدةٍ ومتمايزةٍ هوياتياً.
تلاقت أهداف الأقليات بالمصالح الفرنسية في عدم نشوء قومية عربية من شأنها أن تكون عاملاً موحّداً لسورية الطبيعية، وقوةً تستطيع مجابهة الانتداب... في حالة العلويين، قدّم وجهاء منهم الدعم المادي والمعنوي للفرنسيين، وهو ما عبّر عنه المندوب الفرنسي السامي في سورية ولبنان الجنرال هنري غورو عام 1919، في رسالةٍ سرّيةٍ أرسلها إلى رئيس الحكومة الفرنسية ووزير الخارجية، يعرض فيها الموقف الذي يجب اتخاذه من حكومة الأمير فيصل، قال فيها: "أفيدكم بهذا الصدد أن النصيريين الذين يستيقظ حسّهم الإقليمي ـ الذاتي، منذ أن لم يعد هناك الأتراك لتذويبهم مع المسلمين، ساعدوني كثيراً في قمع الفتنة التي أثارها الشريف بمنطقة تلكلخ، إذ تلقيت برقيةً تفيدني بأن 73 زعيماً نصيرياً، يتحدثون باسم جميع القبائل، يطالبون بإنشاء اتحاد نصيري مستقل تحت حمايتنا، وكما هو حاصل بالنسبة إلى حوران".
في 16 سبتمبر/ أيلول  1920، أصدر الجنرال غورو قراراً للتنظيم المؤقت لأراضي العلويين المستقلة استقلالاً إدارياً، تتكوّن من متصرفية اللاذقية ومدينة اللاذقية ومتصرفية طرطوس. وبعد ثلاث سنوات من إعلان الانتداب الفرنسي إنشاء اتحاد الدول السورية (دولة دمشق، دولة حلب، دولة العلويين)، وإثر خلافٍ بين مندوبي دولة العلويين في مجلس الاتحاد السوري وبين الأعضاء الآخرين، بعث رؤساء الطوائف العلوية عام 1923 إلى نوابهم في مجلس الاتحاد السوري برقيةً يُعربون فيها عن رفضهم أي قرارٍ يُنافي استقلالهم الكامل، ورفض كل قرارٍ يُنافي استقلال العلويين عن الدولة السورية.
لكن، منذ عام 1926، بدأت تظهر ملامح موقف فرنسي يتجه نحو دمج دولتي العلويين والدروز مع دولتي حلب ودمشق ضمن دولةٍ واحدة، مع الحفاظ على المصالح الخاصة للعلويين والدروز. وفي 1936، ومع تبلور الموقف الفرنسي هذا، كتب إبراهيم كنج مذكرةً ضمّت أسماء علوية، تؤكد خوف العلويين من اضطهاد السنة لهم، وربما قتلهم في حال استقلال سورية.

حمل سلطان باشا الأطرش الرجال على قتال الفرنسيين، وسرعان ما اندلعت المعركة الأولى في قرية الكفر، قُتل فيها جنود فرنسيون

وافقت عائلات علوية على هذه المذكرة، فيما رفضتها عائلات أخرى أكدت انتماء الطائفة للإسلام، والوحدة الوطنية السورية. ونشأ بين العلويين حزبٌ اسمه حزب الوحدة، دعا إلى الوحدة السورية، وانحازت إليه شخصياتٌ علويةٌ بارزة، مثل: الشيخ صالح العلي، جابر عباس، الشيخ صالح ناصر الحكيم، الشيخ محمد علي سلمان، الشيخ أحمد ديب الخير، الشيخ إسماعيل يونس، الشيخ محسن حرفوش.
في حالة الدروز، وقف وادي التيم والإقليم وحوران، جنوبي سورية، إلى جانب حكومة فيصل العربية، ودعموها بقوة، رافضين تقسيم سورية. لكن عوامل عديدة غيّرت من موقفهم السياسي هذا، منها اتفاق فيصل مع رئيس الحكومة الفرنسية جورج كليمنصو، ونصيحة المعتمد البريطاني للدروز بقبول الانتداب الفرنسي للحصول على استقلالٍ ذاتي، وإلا ضُمّوا إلى لبنان.
عام 1920، كان الدروز منقسمين إلى قسمين: الأول بزعامة الأمير سليم الأطرش ومصطفى بك نجم الأطرش، وهو تيارٌ طالب بحكمٍ ذاتيٍ للدروز تحت إشرافٍ فرنسي، وطالب الثاني بزعامة طلال باشا عامر باستعمارٍ فرنسيٍ مباشر، لا الاكتفاء بالإشراف. لكن التيار الأخير لم يلقَ قبولاً عند الأغلبية الدرزية التي فضّلت استقلالاً ذاتياً، وهو ما تم فعلاً، فعند دخول الفرنسيين سورية، نال الدروز استقلالهم عام 1921.
يروي عبد الرحمن الشهبندر في مذكراته تفاصيل ثورة الدروز ضد الحاكم الفرنسي كاربيه، فيقول: "في اليوم الأول من عيد الأضحى، 21 يوليو عام 1925، تظاهر الدروز في السويداء منددين ورافعين شعار: 'فليسقط كاربيه الظالم، وليحيا رينو العادل'. فردّ جنود كاربيه بالعنف، فما كان من المتظاهرين إلا الردّ عليهم بالحجارة، ما دفع الجنود للهرب"... أرسلت المفوضية الفرنسية آخر أيام العيد قائداً عسكرياً لاستلام مقاليد الحكم في جبل الدروز من القائد أنطوان رينو، باعتباره هو المسبّب لهذه الاضطرابات. ثم طلب القائد الجديد من أعيان الجبل أن يذهبوا إلى الجنرال ساراي لأنه يريد مقابلتهم، وما إن وصل الأمير حميد الأطرش وعبد الغفار باشا ونسيب بك إلى دمشق، حتى أُلقي القبض عليهم ونُفوا إلى دير الزور.
علم سلطان باشا بالأمر، فأخذ ينتقل بين القرى لحمل الرجال على قتال الفرنسيين، وسرعان ما اندلعت المعركة الأولى في قرية الكفر، قُتل فيها الجنود الفرنسيون، ثم توسعت المعركة لتشمل أهل المقرن الغربي من نجران وعاهرة وقرى أخرى، نجح رجالها بالانقضاض على مؤخرة الجيش الفرنسي فقتلوهم... وينهي الشهبندر روايته بالقول: "أخطأ الدروز فلم يواصلوا الزحف إلى الشام بعدما أفنوا حملة ميشو، فأضاعوا فرصةً ثمينة، ولم نكن نحن في الشام على استعدادٍ لجني ثمار هذا الانتصار". 
في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول 1918، دخلت الجيوش العربية دمشق، ثم دخلها الأمير فيصل بن الحسين بعد يومين. ومع هذه الحكومة، الأولى عربياً، بدأت الولادة السياسية لسورية، وبدأ معها مناخ الحريات السياسية. بعد تشكيل الحكومة، أُسّس مجلسٌ منتخبٌ لوضع دستورٍ للبلاد، سُمّي "المؤتمر السوري". أكّدت المادة العاشرة فيه أن كل فردٍ سوري مواطن، بغضّ النظر عن أي تحديدٍ ديني أو لغوي أو قومي، وأن الجميع، بحسب المادة الحادية عشرة، متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات. وبعد شهرين من هزيمة الجيش العربي في معركة ميسلون قرب دمشق عام 1920، قسّم الانتداب الفرنسي سورية إلى خمسة كياناتٍ سياسيةٍ منفصلة: دولة حلب، إقليم علوي، دولة دمشق، إدارة ذاتية لجبل الدروز، ولبنان الكبير. وبسبب الرفض الشعبي لهذا التقسيم، عمد الانتداب في 1922 إلى تأسيس اتحادٍ سوري، ضمّ دولتَي دمشق وحلب والإقليم العلوي، في حين احتفظ الدروز في الجنوب باستقلالٍ ذاتي. في 1928، أُجريت الانتخابات البرلمانية، واستمرّت حتى وصول حزب البعث إلى السلطة عام 1963. وخلال هذه الفترة، شكّلت الأحزاب السياسية خليطاً واسعاً ومتناقضاً من الأيديولوجيات، فيما غلبت المصالح المناطقية (الريف والمدينة) والطائفية على الحياة السياسية والاقتصادية، فنشأت أوليغارشية سُنية إقطاعية فرضت هيمنتها على الريف والأقليات.

بعيد سقوط الأسد، سيطر تيارٌ سُنيٌّ راديكالي على "الدولة". وكما هو الحال مع أي سلطةٍ في العالم، يسعى الحكّام إلى الحفاظ على وحدة أراضي الدولة ومنع أي انشقاقاتٍ إقليمية

وقد أحدث هذا التباين الحاد بين التصورات الجغرافية المأمول تحقيقها والواقع الجغرافي القائم خللاً على مستوى الهوية، وحال دون نشوء وعيٍ وطني يمهّد لنشوء هويةٍ وطنيةٍ بحدود سورية الواقعية... وهكذا، كانت الأحزاب السياسية في سورية آنذاك تداخلاً طبقيٍّاً أيديولوجيّاً يقوّي أحدهما الآخر، وتزداد قوته الداخلية بنفيه الآخر. ففي العقد الأول بعد الاستقلال، كانت سطوة المدينة على الريف واضحة، وفي مرحلة "البعث"، هيمن الريف على المدينة. وكانت النتيجة غياب العلاقة التكاملية بينهما، ما أفقد الريف هويته، في الوقت الذي فقدت فيه المدينة هويتها بفعل الهجرات الريفية الكبيرة إليها أولاً، وبفعل سياسات الأسد ثانياً.
مع حافظ الأسد، نشأ حكمٌ ديكتاتوريٌّ صلب، جعل من الاستحالة بمكان نشوء أي تفكيرٍ هويّاتيٍّ سياسيٍّ على مستوى الجماعات. لكن، بالمقابل، ولأغراض السلطة، تلاعب الأسد بالهُويات الدينية، فمنح الأقليات ثقةً بحقوقهم وحرياتهم باعتبارهم جماعاتٍ هُوياتية. ولذلك، آثرت الأقليات التنازل عن آمالها السياسية مقابل الاحتفاظ بحرياتها وحقوقها الاجتماعية والدينية. وبسبب غياب دولة المواطنة وغياب مشاركة الأفراد في الحياة السياسية، انعدم الحسّ والوعي السياسيان لدى السوريين، فيما بقي الحسّ واللاشعور الطائفي كامنين في الوجدان لدى جميع المكونات السورية بلا استثناء.
ظهر ذلك مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، حين وقفت الأقليات بين دعم نظام الأسد والحياد السلبي، فحطّمت بذلك أملاً سياسياً على صخرة التفكير الأقلوي الضيّق، كما فعلت الطبقة الرأسمالية السُنية المتحالفة مع نظام الأسد.
بعيد سقوط الأسد، سيطر تيارٌ سُنيٌّ راديكالي على "الدولة". وكما هو الحال مع أي سلطةٍ في العالم، يسعى الحكّام إلى الحفاظ على وحدة أراضي الدولة ومنع أي انشقاقاتٍ إقليمية، والحفاظ على سلطتهم وإدامتها، وهو ما قام به الأسدان، ويقوم به الرئيس أحمد الشرع حالياً. لكن الفارق المهم أن الأسد الأب استخدم الطائفة العلوية عصبيةً فقط لخدمة السلطة، لا لخدمة الطائفة، واستغلّ الأقليات لخدمة نظامه لا لخدمتها. أي أن المعيار الحاكم هنا كان السلطة وأغراضها فقط. وفي حالة الشرع وجماعته وجمهورٍ كبيرٍ من السُنة، اختلف الوضع؛ فالأمر يتعلق بما يعتبرونه تصحيحاً للتاريخ السياسي، بعودة سلطة "مُفتقدة" منذ عقود إلى أصحابها (الأكثرية غير الديمقراطية)، مع تأمين حياةٍ طبيعيةٍ للأقليات ضمن "دولة" تسعى إلى تحقيق الرفاه الاقتصادي، وسيادة القانون، والحريات الدينية والاجتماعية، وفق أيديولوجيا "الدولة" الجديدة. وهذه إحدى مفارقات التاريخ ومكره، حيث يتشابه نظام الشرع مع نظام الأسد: كلٌّ منهما يعتبر السلطة ملكاً له، وما الانتخابات التي سيُعمل بها مستقبلاً، وتلك السابقة في عهد الأسد، إلا مظاهر خادعة؛ ففي الحالتين تستحيل الانتخابات إلى أداةٍ للهيمنة.
ومع ذلك، وللإنصاف، قد يشكّل النظام الانتخابي الذي سيُعمل به في سورية، على ما فيه من عيوب، نواةً مستقبليةً للبناء عليه، إذا ما نشأت قوى سياسية وطنية من كل مكوّنات المجتمع السوري، تتجاوز العلاقات العمودية، بما يمكّنها من تشكيل أكثريةٍ سياسيةٍ قادرةٍ على صنع الفرق.
وحتى ذلك التاريخ المرجو، فإن الواقع السياسي الحالي في سورية تحكمه نزعاتٌ هُوياتية لدى مختلف الطوائف، مع التأكيد على عدم التساوي في المسؤولية التاريخية؛ فالأكثرية الهُوياتية الحاكمة اليوم لديها مسؤولياتٌ أكبر، فهي مطالبةٌ بتأسيس منظومةٍ سياسيةٍ وطنية، تتحوّل فيها الأقليات والأكثريات من المستوى الهُويّاتي إلى المستوى السياسي الوطني، وهذا يبدو صعباً في ظل السلطة القائمة. وإذا استمر الوضع السياسي في سورية على ما هو عليه، فلا يُستبعد أن تظهر شخصياتٌ مشابهةٌ لحكمت الهجري، الذي وجد إسرائيل أقرب له من دمشق.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية