
لم يكن في حسابات الرجل الأبيض أن تمثل حضارة الصين تحديًا يتطلب إعداداً لمواجهته، فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي في نهاية الثمانينيات، ذهبت الكتابات الخاصة بالحضارة الغربية إلى أن العدو القادم هو الإسلام، وأعدت عدتها لذلك. ولكن بعد عقود عدة، وفشل استراتيجية الغرب وأميركا باستيعاب الصين وجعلها مجرد مصنع للعالم، برزت الصين قوة تزاحم أميركا والغرب على خريطة القوى العالمية، في مجالات عدة، منها الإنتاج السلعي، والسلاح، والتكنولوجيا.
ومن هنا أصبح استهداف الصين، والعمل على تحجيم مشروعها حضاريًا، هدفًا لأميركا والغرب. ولعل نقطة ضعف الصين في هذه المعركة، أنها تعمل في أطر غربية وأميركية في المجال الاقتصادي، فاستقبلت الرأسمالية بما لها وعليها، والتي تركت بصماتها على المجتمع الصيني في نمط المعيشة وتطلعات الأجيال الجديدة، لنفس نمط شباب الغرب وأميركا وسلوكه.
تسليع العواطف
الثابت أن الصين صاحبة الحضارة الشرقية، لديها ثوابتها وعاداتها وتقاليدها، في ما يتعلق بالأسرة وعلاقة الرجل بالمرأة، وإن كان الطابع الماوي أو الشيوعي الذي استمر في حكم البلاد، ولا يزال، قد ترك بصماته التي قد تخالف ثوابت الحضارة الصينية الشرقية إلى حد ما. ومؤخرًا، نشرت وسائل الإعلام، تقريرًا عن إحدى العادات التي بدأت في الانتشار في مدن الصين، وهي إقبال الفتيات على خدمة بمقابل تتمثل في عناق الرجال الغرباء، مقابل أن تدفع الفتاة 7 دولارات، أجراً مقابل أن تظل 5 دقائق في معانقة رجل غريب.
بررت الفتيات التي مارسن هذه العادة، بأنهن يجدن في معانقة الرجل الغريب تنفيسا عن التعب الذي يشعرن به طوال يوم العمل، أو تخفيفًا عن أعباء الدراسة. وهنا يكمن الخطر، إذ تم الاستغناء عن الأسرة بركنيها الأساسيين من أب وأم، أو التفكير السليم بالارتباط عبر مؤسسة الزواج، لتحقيق هذه الرغبة، من تفريغ الإرهاق والتعب، والحصول على مشاعر دافئة.
الأمر وصفته وسائل الإعلام التي نقلت الخبر، على أنه ظاهرة منتشرة داخل الصين صاحبة ثاني أضخم اقتصاد في العالم، وهذا ما يدعونا للتفكير في أبعاده، وبخاصة أن له شواهد تعكسها الإحصاءات، تفيد بأن بنية السكان في الصين شهدت تغيرات سلبية ملحوظة خلال العقود الماضية، بعد أن أصبحت الصين جزءًا مهما في منظومة الرأسمالية والعولمة. والمعلوم، أن الرأسمالية جعلت كل شيء قابلا للبيع والشراء كونه سلعة، وهذا مقبول في إطار بيع السلع والخدمات. أما علاقات الرجل بالمرأة، وما يتعلق بمكون مهم للمجتمع وهو الأسرة، فلا يخلو الأمر من تدبير وتآمر، ولقد رأينا الدلالات السلبية لمبدأ "التسليع" في علاقة الرجل بالمرأة، وما يخص الشهوة بشكل عام والعلاقات الجنسية وتفشي ظاهرة أبناء الشوارع والعزوف عن الزواج وشيخوخة السكان...إلخ.
أرقام مخيفة
ظلت الصين لسنوات تتصدر قائمة الدول الأعلى من حيث عدد السكان على مستوى العالم، ولكن مؤخرًا، تراجعت للمرتبة الثانية، حيث تقدمت عليها الهند. والسكان في التجربة الصينية، وبخاصة بعد النهوض التنموي منذ مطلع تسعينيات القرن العشرين، ثروة بشرية، يمكن توظيفها والاستفادة منها بشكل كبير، وهو ما جعل الصين تغير من استراتيجيتها تجاه السكان، وتناشد أبناءها التخلي عن مبدأ "مولود واحد"، وسمحت بالطفل الثاني منذ عام 2015، ومع ذلك يتراجع معدل الزيادة السكانية، وكذلك خصوبة النساء.
لا شك أن الصين مدركة للآثار السلبية لاندماجها في العولمة، وعليها أن تأخذ في الحسبان الظواهر المستحدثة في سلوك أبنائها، وبذل جهودها ليكون اندماجها في العولمة محسوبًا
أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي، تظهر أن ثمة تراجعًا ملحوظًا في معدل خصوبة المرأة الصينية، حيث بلغ مولود واحد لكل امرأة في عام 2023، بعد أن كان 1.7 في 2015، و2.5 في عام 1990، علما بأن المتوسط العالمي لخصوبة النساء 2.2 ولادة لكل امرأة في عام 2023. ويلاحظ أن ثمة ربطا بين تراجع معدلات خصوبة النساء في الصين، واندماج الصينيين في مشروع العولمة، وإن كان الأمر قد يتعلق بأسباب أخرى.
كما أن بيانات البنك الدولي، تبين أن معدل الزيادة السكانية في الصين، تراجع إلى سالب 0.1% في عام 2024، وفي عام 2015 كان بحدود 0.6%، وفي عام 1990 كان 1.5%، وتشير التقديرات الدولية إلى أن المتوسط العالمي للزيادة السكانية بلغ 1% عام 2024، بينما الصين قدرت فيها الزيادة السكانية بسالب 0.1%. أما عن عدد سكان الصين في الفترة من 2015 – 2024، فتظهر أرقام البنك الدولي أنه بلغ عام 2015، 1.38 مليار نسمة، وارتفع إلى 1.48 مليار نسمة في عام 2024، أي أن الزيادة المتحققة على مدار 10 سنوات بحدود 28 مليون نسمة.
النزعة الفردية في الصين
وإن كانت السياسات السكانية للصين منذ عقود، قد تركت أثرها على ثقافة الأفراد وسلوكهم تجاه الإنجاب، إلا أن اندماج المجتمع الصيني، وبخاصة شباب المدن، والمنفتحين على ثقافات الآخرين، قد تركت أثرها في جوانب اجتماعية مختلفة، وبخاصة في سلوك الأفراد تجاه الأسرة، وزيادة النزعة الفردية بدليل العزوف عن الزواج وانتشار ظاهرة ارتفاع معدلات الطلاق بين الشباب الصيني. وثمة إحصاءات صينية نُشرت مؤخرًا أفادت بأن هناك تراجعًا كبيرًا في معدلات الزواج الحديث، ففي عام 2024 كان هناك 6.1 ملايين حالة زواج في الصين، مقارنة بـ 13 مليون حالة زواج في 2013. والمؤشر السلبي اجتماعيًا في الصين، هو حالات الطلاق، التي قدرت في عام 2024 بحوالي 2.6 مليون حالة، بزيادة طفيفة عن معدلات 2023.
ليس أمرًا عابرًا
قد ينظر البعض إلى السلوك الذي تضمنته الظاهرة المتعلقة بتصرف بعض فتيات الصين، للحصول على مشاعرهن تجاه الرجال الغرباء مقابل أجر، على أنه أمر عابر، ولكن الأمر أبعد من ذلك. فإذا كانت الصين تشجع مؤخرًا الأسر على إنجاب الأطفال وحسن تربيتهم، عبر منح تصل إلى 500 دولار للطفل دون سن الثالثة، فإن حرصها هذا مبعثه العنصر البشري وأهميته في التحدي الحضاري. فإذا كانت الصين تعاني اليوم من تراجع معدلات الزيادة السكانية، وكذلك تراجع خصوبة النساء، وكذلك عزوف الشباب عن الزواج وشيوع الطلاق، فستكون الدولة أمام مشكلة كبيرة عانى منها الغرب، تمثلت في تفكك الأسرة، وشيخوخة السكان، وعليها الاستعداد لأن تستقدم المهاجرين خلال عقدين على الأكثر خاصة لسد الفراغ في سوق العمل. من المهم التعامل مع المنظومة الحضارية بما يقابلها، وليس كما فعلت بعض الدول بالتعامل الجزئي، دون أن تتجهز لمتطلبات الغزو الحضاري. وفي الحالة الصينية من الصعب أن تنغمس الصين في منظومة الرأسمالية بمكوناتها المختلفة، دون أن تترك أثرها على سلوك الأفراد والمجتمعات.
وثمة شهادات من قبل بعض من عاشوا في الصين لفترات اقتربت من عقدين من الزمان، تُظهر كيف تأثر شباب الصين بالثقافة الغربية والأميركية في الاستهلاك للطعام والشراب، والملبس والمسكن، وأن تطلعات الشباب والفتيات تُبنى حاليًا على نفس المعايير الموجودة في الغرب، من الرغبة في الثراء الفاحش، وامتلاك السيارات الفارهة، والأجهزة الحديثة.
لا شك أن الصين مدركة للآثار السلبية لاندماجها في العولمة، وعليها أن تأخذ في الحسبان الظواهر المستحدثة في سلوك أبنائها، وبذل جهودها ليكون اندماجها في العولمة محسوبًا، بحيث تبقي على ما لديها من مقومات حضارية إيجابية، وأن تتلافى سلبيات التجربة الغربية خاصة الأميركية، وإلا فستجد نفسها جزءًا من المشروع الغربي بكل مكوناته، إذا فقد الإنسان الصيني خصوصيته.
