
في ظل تصاعد التوترات التجارية والمخاطر الجيوسياسية وتنامي المخاوف من تباطؤ الاقتصاد الأميركي، يعود الذهب إلى واجهة المشهد المالي العالمي بوصفه من أبرز أدوات التحوّط وأكثرها استقراراً. وبينما كانت بعض المؤسسات المالية تتبنى نظرة حذرة تجاه المعدن الأصفر، جاء أحدث تقارير مؤسسة "سيتي غروب" المصرفية الأميركية، الاثنين، ليعكس تحولاً جذرياً في التوقعات، مدفوعاً بجملة من العوامل المتشابكة، تبدأ من الرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة الرئيس دونالد ترامب، مروراً بمؤشرات تباطؤ سوق العمل الأميركي، وصولاً إلى احتمالات تمرير حزم تحفيزية جديدة.
تقرير "سيتي غروب" ليس في معزل عن السياق العالمي، بل يتقاطع مع توقعات مؤسسات مالية أُخرى مثل "غولدمان ساكس" و"جيه بي مورغان" و"بنك أوف أميركا"، التي رفعت جميعها سقف توقعاتها لأسعار الذهب خلال عام 2025، في ظل تزايد الطلب الرسمي من المصارف المركزية تزامناً مع تراجع الثقة في أداء الدولار الأميركي. وأعلنت "سيتي غروب"، في تقريرها، عن تعديل جذري في توقعاتها لأسعار الذهب، متخلية عن رؤيتها السابقة التي كانت تتوقع تراجع سعر أونصة المعدن الأصفر إلى ما دون ثلاثة آلاف دولار.
ووفقاً للمحللين، وعلى رأسهم ماكس لايتون، فإن الذهب سيُتداول بين 3300 و3600 دولار خلال الأشهر الثلاثة المقبلة، مدفوعاً بتدهور مؤشرات الاقتصاد الأميركي وارتفاع الرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة ترامب، والتي تجاوزت متوسط 15%. وأشار التقرير إلى أن الأسواق باتت أكثر قلقاً من احتمالات الركود في الولايات المتحدة، نتيجة استمرار أسعار الفائدة المرتفعة على مدى ثلاث سنوات، ما عزز من جاذبية الذهب ليكون أداة تحوّط. وأضاف المحللون أن "هذا القلق تفاقم خلال الأشهر الستة الماضية، في ظل أجندة ترامب التجارية التي تُعد الأكبر من نوعها منذ قرن".
ورغم أن الذهب بلغ ذروته فوق 3500 دولار في إبريل/نيسان الماضي، إلا أنه دخل في مرحلة تماسك خلال الأشهر الأخيرة، في انتظار محفزات جديدة. واعتبر محللو "سيتي غروب" أن توقعاتهم السابقة، التي وضعت السعر بين 3150 و3500 دولار، كانت دقيقة في ظل هذا الاستقرار. لكن التقرير لم يخلُ من الحذر، إذ أبدى المحللون تحفظاً تجاه آفاق الذهب في عام 2026، مشيرين إلى أن انتهاء التوقف المؤقت في التوظيف الأميركي، إلى جانب وضوح أكبر في السياسات التجارية، قد يحدّ من الزخم الصعودي. كما أشاروا إلى أن تمرير حزمة تحفيزية محتملة تحت اسم "مشروع قانون ترامب الكبير والجميل" أو "مشروع القانون الجميل الكبير" (One Big Beautiful Bill Act) قد يعيد تشكيل المشهد الاقتصادي ويؤثر في توجهات المستثمرين.
ماذا تتوقع المصارف الكبرى لاتجاه الذهب عالمياً؟
في مقارنة مع توقعات أبرز المؤسسات المالية الأُخرى، يتوقع "غولدمان ساكس" الاستثماري الأميركي، وفق أحدث تقاريره، وصول الذهب إلى 3700 دولار، مع سيناريو متفائل يبلغ 3810 دولارات إذا استمر الطلب القوي من المصارف المركزية، مشيراً إلى أن مشتريات هذه البنوك قد تصل إلى 100 طن شهرياً، وهو ما يدعم الأسعار بقوة. من جهته، يرى "جيه بي مورغان" أن سعر الأونصة قد يتراوح بين 3675 وأربعة آلاف دولار خلال عام 2025، مدفوعاً بمشتريات ضخمة من المصارف المركزية، والتي تجاوزت 900 طن سنوياً.
أما "بنك أوف أميركا" فيتوقع أن يصل سعر الأونصة إلى أربعة آلاف دولار، محذراً من تأثير الدين العام الأميركي على الاستقرار المالي، بما يعزز الطلب على الذهب ملاذاً آمناً، في حين أن "مجلس الذهب العالمي" (WGC) لم يحدد رقماً دقيقاً، لكنه يؤكد أن الطلب الرسمي بلغ مستويات قياسية، بخاصة من دول مثل الصين وتركيا، بما من شأنه أن يدعم الاتجاه الصعودي لأسعار المعدن النفيس.
ما انعكاس صعود الذهب على الزبائن؟
كل هذه التوقعات تعني سعر الأونصة في الأسواق العالمية، لكن تأثيراتها تمتد إلى أسواق التجزئة وتنعكس على المستهلكين والمدخرين جميعاً في مختلف دول العالم، نظراً لارتباط الأسعار المحلية بالعالمية من جهة، وتسعير الذهب بالدولار من جهة ثانية. وسنسوق في ما يلي عن التأثير المحتمل في السوق المصرية، على سبيل المثال لا الحصر، لتقريب الفكرة. تشير بيانات موقع "ريل إي جي بي" (RealEGP) لصباح الاثنين، إلى أن متوسط سعر غرام الذهب عيار 21 يناهز 4585 جنيهاً، مقابل 3930 جنيهاً لعيار 18، و5239 جنيهاً لعيار 24، علماً أن سعر الدولار في البنك المركزي يبلغ 48.57 جنيهاً للشراء و48.7 جنيهاً للمبيع، وهو يمثل مرجعاً أساسياً للتسعير في السوق.
ومع توقعات "سيتي غروب" بلوغ الأونصة 3600 دولار عالمياً، فإن سعر غرام الذهب عيار 21 في مصر قد يصل إلى خمسة آلاف جنيه أو أكثر، وفق تقرير سابق صادر عن شعبة الذهب بالغرف التجارية في فبراير/ شباط الماضي، وقدّر أن يصل السعر إلى هذا الحد في حال استمرار الاتجاه الصاعد. ونظراً لأن الذهب يُسعّر بالدولار، فإن أي ارتفاع في سعره توازياً مع ضعف الجنيه أمام الدولار، يؤدي إلى تصاعد السعر محلياً. وتعد مصر واحدة من أكبر الأسواق العربية من حيث الاستحواذ على المعدن الاصفر في ظل موجات تراجع قيمة العملة المحلية وتآكل المدخرات وزيادة أسعار السلع والخدمات.
وفي ظل التضخم المحلي وعدم استقرار سعر العملة، يلجأ المستثمرون والأفراد إلى الذهب لحماية مدخراتهم، بما يعزز الطلب عليه محلياً. كما أنه مع تقلبات السوق، يفضل كثيرون الذهب على شهادات الاستثمار أو العقارات. ومن البديهي القول إن ارتفاع السعر عالمياً يعني، تالياً، انخفاض حركة البيع والشراء داخل محلات الصاغة، بما يؤثر طبعاً على حجم أعمال التجار وأرباحهم.
