
أثارت انتخابات جمعية التشكيليين العراقيين، التي عُقدت في نهاية يونيو/ حزيران الماضي، جدلاً قانونياً وثقافياً بسبب مشكلات حصلت بين الهيئة الإدارية والمرشحين، وقضايا تتعلق بالنزاهة المالية وقبول أعضاء جدد عشية الانتخابات بفترة قليلة! وهي حادثةٌ من ضمن أحداث كثيرة تدل على مأزق المؤسسات الثقافية في العراق، وتشكل مدخلاً لمحاولة لاستعادة الناقد والفنان التشكيلي العراقي الراحل شاكر حسن آل سعيد، الذي تمرّ مئة سنة على مولده، بوصفه أحد أبرز الفاعلين الذين ساهموا في استقرار الأطر والهيئات الثقافية والفنية في العراق.
وللمفارقة، غيّبتْ هذه الأطر والهيئات ذاتها التي تواجه أزمة بنيوية اليوم، مئويةَ آل سعيد عن أجندة أنشطتها طوال العام الجاري، ولم تلتفت إلى مشروعه في أرشفة وتوثيق وكتابة أنطولوجيا كاملة بجزأين تحت عنوان "فصول من تاريخ الحركة التشكيلية في العراق"، وكذلك إلى مساهمته الحقيقية في تأسيس الحداثة التشكيلية العراقية؛ ممارسة وتنظيراً وتأطيراً رسمياً.
حداثة فنية في سياق جماعي
في مقال "بمناسبة مرور ربع قرن على ظهور جماعة بغداد للفن الحديث"، التي نشرها الفنان الراحل في مجلة "آفاق عربية" العراقية في عددها الثاني من عام 1978، ما يشبه سيرة ذاتية لا تخلو من تأمّل لمسارها الزمني وأبرز محطاتها المحتشدة، حيث يصف مقهى ياسين الذي كان يرتاده بعد انتهاء دوامه المسائي طالباً في معهد الفنون الجميلة ببغداد، في الوقت نفسه الذي يُدرّس فيه في دار المعلمين بمدينة بعقوبة صباحاً، مشيراً إلى أن هذا المقهى شهدَ التأسيس التنظيري لجماعة بغداد 1951 عبر نقاشات آل سعيد مع أقرانه من أمثال محمد الحسني وجواد سليم، الذي اقترح فيما بعد اسم الجماعة بعد موافقته للانضمام إليها.
لم تكن الحركة التشكيلية العراقية فقيرة حينها، إذ ظهرت جماعة أصدقاء الفن 1941 والتي ساهم جواد سليم بتأسيسها والتي يقول عنها شاكر هي "بوتقة كبرى صهرت مستقبل الفن العراقي مع ماضيه، فهي أول خطوة جادة في توحيد جهود الفنان الفردية"، ثم جماعة الرواد 1950 التي كونها الفنان فائق حسن، والتي يصفها شاكر بالجرأة، قائلاً: "ضربت مثلاً على جرأة الفنان العراقي في التزامه الفني كأي فنان أوروبي"، وهو بذلك لا يجد مشكلة في إظهار امتنانه لتجارب الجماعات التي سبقت جماعة بغداد، ليخلص إلى قوله "وهكذا أصبح الطريق معبّداً أمامنا، نحن شبيبة الخمسينيات، وأمام جواد سليم رائدنا في التفكير بنشأة جماعة جديدة".
جمَع في أعماله بين التقاليد الصوفية والفن التجريدي المعاصر
ويرى أن فضائل المقهى امتدت إلى التجديد في الشعر أيضاً، ذلك لأن شعراءَ مثل بلند الحيدري وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي كانوا من رواد المقهى وبحلقات نقاشية تنظيرية مستمرة بين التشكيل والأدب، خصوصاً بين سليم والحيدري وجبرا إبراهيم جبرا أنتجت حداثة الشعرية العراقية عبر تجربة شعر التفعيلة، والتي يتحدث عنها بقوله "من خلال هذا التناوب في تناول الأدب والفنون التشكيلية كمنت بوادر الانطلاق نحو تجديد فني أصيل"، فجماعة بغداد، منذ ذلك الوقت المبكّر بدأت بالتملّص من تأثيرات الفن الأوروبي، حيث استنجدت بمجدّدي الشعر العراقي، بحسب رأيه معتبراً أنها جماعة أساسها الالتزام الفني لذاته، والبحث عن هوية فنية جماعية؛ الهوية بوصفها وثيقة صلة بالحضارة عبر التعبير عن "الطابع المحلي في الفن" بالعودة الى التراث: حضارات الرافدين والثقافة العربية الإسلامية.
فينومينولوجيا آل سعيد
بعد تأسيس "جماعة بغداد"، وضمها لفنانين آخرين، منهم قحطان عبد الله ومحمود صبري وفاضل عباس ونزار علي محمد غني حكمت وإسماعيل فتاح ونزيهة سليم ولورنا سليم، زوجة جواد سليم وغيرهم، أقيمت العديد من المعارض الفنية لأعضائها الذين تأثروا بالأحداث السياسية آنذاك والاحتجاجات الشعبية في العراق وبلدان عربية أخرى ضد سياسات الاستعمار الغربي، فكانت أغلب ممارستهم للفن جماعية الطابع.
سافر شاكر حسن آل سعيد إلى باريس لإكمال دراسته الفنية 1955، وتفاعل هناك مع الحركات الفكرية الجمالية الكبرى التي كانت وقتها رائجة في أوروبا، ومنها الفينومينولوجيا وهي دراسة هياكل الوعي أو الخبرة، أي دراسة ظهور الأشياء في التجربة، والطرق التي يتم بها اختبار الأشياء والمعاني التي تحملها، وهنا عاشَ صراعاً معرفياً بين التأثر والإعجاب بالحركة الفكرية الأوربية وبين الإرث الحضاري والفني والهوية الذاتية المحلية، ليثمر هذا الصراع رؤية فنية أصيلة لآل سعيد تبنت فيما بعد مفهوم البعد الواحد، وهو ما يصفه بإدراك الفن بوصفه تأملاً وليس مجرد خَلق.
يجمع الفنان الراحل في نظرته إلى البعد الواحد، الذي بدأ التنظير له في سبعينيات القرن الماضي واستمر لسنوات طويلة، ما بين التقاليد الصوفية والفن التجريدي المعاصر، وأن العمل الفني له من الاستقلالية والكيان الذاتي ما يجعله ينقطع عن الفنان والمتلقي/المشاهد ليكون عملاً مستقلاً تماماً بأدواته التقنية التي أخذت مساراً جديداً تمثلت بالشقوق والندبات والخدوش والحروق والآثار والفوهات، وهذا ما لم تعتده اللوحة التشكيلية العراقية في ما سبق!

أخبار ذات صلة.
