تجويع وليست مجاعة
عربي
منذ ساعتين
مشاركة

في زمن السيادة المعولمة، يخنق شعبٍ كامل بإدارة الجوع، وتقنين الدواء، وتنظيم الخوف تحت سقف القوانين. المجاعة ليست مشهداً بدائياً ناتجاً عن فوضى الطبيعة، إنها أداة هندسية دقيقة تُستعمل لتحقيق أهداف سياسية وتُنفّذ بتقارير رسمية وموازنات دولية. حين تُصبح الحياة خاضعة لتوقيع، يتحوّل الخبز قراراً أمنياً، ويأخذ السكوت شكل ردّة فعل محسوبة. جيش الاحتلال الإسرائيلي يتحكّم في الأرض والسماء، ويضبط الغذاء كما يضبط حركة المرور في نقاط التفتيش. ضبّاطه يقرّرون من يدخل المعبر، ومتى تمرّ الشحنة، وكم دقيقة يُنتظَر قبل فتح الباب. الإدارة العسكرية تُشرف على توقيت الجوع وتُمسك بالخريطة الأمنية. الجنود لا يطلقون النار دائماً، يُمسكون الخبز بالحساب، ويحوّلون الطابور اختباراً للبقاء. الحكومة الإسرائيلية تُنظّم الحصار عبر قرارات رسمية ومداولات موثّقة. الجائع الفلسطيني يخضع لمعادلة مرسومة، ويعيش ضمن شروط تحدّدها الموافقة. الجيش يُدير المجاعة ملفّاً سياسياً طويلَ الأمد، ويُخضعها للإحصاءات والموافقات. ما تُسمّى "إدارة المساعدات الإنسانية" تعني إدارة لدرجات الموت.
الفلاح الأوكراني في ثلاثينيّات القرن الماضي كتب في زمن المجاعة لأنه لم يجد ما يقوله سوى الصمت. اللغة انهارت أمام سلطة الجوع. في غزّة، الفلسطيني يختار السكوت حين يدرك أن العالم لا ينوي الإصغاء. توقّفت الأمّ عن الكلام بعد أن جرّبت كلّ الكلمات ولم يُجب أحد. الطفل لم يعد يصرخ لأن جسده أضعف من البكاء. المجتمع الدولي لا يُخرس الناس، يتجاهلهم حتى يتواروا. الأمم المتحدة تقرأ تقاريرها بصوت رتيب، والناس يموتون من دون أن يسمعهم أحد. إسرائيل تدرك أن الصوت مقاومة، وتحاصر الحناجر. الفلسطيني يصمت لأنه يعرف أن اللغة لا تفتح باباً، والأبواب تُغلق في وجهها. في حصار سراييفو، تعلّم العالم أن الحصار لا يحتاج جدراناً، بل نيّات واضحة. القناصون تمركزوا على التلال، والخبز صار مخاطرة، والماء اختُزن في الذاكرة. أربع سنوات من القنص والقصف والخذلان، والعالم راقب المدينة تُقصف ببطء، كما يراقب لوحة سريالية تتفسّخ أمامه من دون أن يمدّ يده. لم تكن سراييفو مدينة محاصرة فقط، كانت تمريناً مبكّراً على ما سيُصبح لاحقاً سياسة دولية: أن يُترك الناس للموت، ويُفسَّر صمت المجتمع الدولي على أنه اتزان.
الأمم المتحدة تملك الأرقام، وتجمع الصور، وتصدر التقارير بلغة دقيقة ومحايدة. موظفوها يوثّقون المجاعة كما يُوثَّق الطقس، بلا انفعال أو نداء. مجلس الأمن لا يُصدر قراراً ملزماً، يراقب من بعيد وكأن الزمن يملك القدرة على تبديد الدم. حكومات أوروبا لا تضع الحصار في جدول العقوبات. المسؤولون الغربيون يُرجئون الموقف ويُصنّفون الكارثة ضمن "التعقيد الجيوسياسي"، ويعدون الفلسطينيين بدولة إن أثبتوا حسن أخلاقهم في مواجهة التجويع وصمتوا. الولايات المتحدة تموّل السلاح، وتدعو إلى ضبط النفس، وتوفّر الغطاء الدبلوماسي بينما تتابع العدسات سقوط الأجساد. القادة العرب لا يطرحون مبادرات، لا يقطعون علاقات، لا يُحمّلون أحداً مسؤولية سياسية. الحكومات العربية تُصدر بيانات باهتة، وتُرسل قوافل تمرّ بصمت وتعود بصمت. التواطؤ مكشوف، والأدوار تُؤدّى كما كُتبت.
وسائل الإعلام تواصل التصوير كما لو أنها تنقل مباراة مؤجّلة. المراسلون يُسجّلون المشهد من دون مقاطعة، والمشاهدون لا يُديرون وجوههم. الجندي الذي يطلق النار يعلم أن العدسة تحميه. القادة الذين يشاهدون اللقطات لا يقطعون البث، ويُحلّلون التأثير الجماهيري. الطفل يسقط لأن الرصاصة أصابته، لأن القنّاص رأى بوضوح وضغط على الزناد. الأمّ تنحني لتبحث في التراب عمّا تبقّى من ملامح، وهي تعرف أن أحداً لن يأتي. العالم يرى ما يحدث، ويُعيد تسميته. الصحف تكتب "مأساة"، ووزارات الخارجية تصف القتل بـ"أعمال عنف". المجاعة تُنفَّذ بأيدٍ معروفة وقرارات موثّقة. من يصنع الجوع يعرضه بطاقة عبور نحو توازنات جديدة. المجاعة في غزّة تُنسَّق كما تُنسَّق مؤتمرات السياسة. من يقتل الأطفال يشرح نواياه على المنابر، ومن يُدير الجوع يترك أثره ظاهراً جزءاً من نظام مُعلَن. في هذا الزمن، الصمت لا يُعفي، والحياد لا يُنقِذ. الكارثة تُبثّ على الهواء، والمجرم يرى، ويواصل.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية