
الصيف الأوروبي هو موسم السفر الأول دون منافس، فمع عطلة المدارس تكتظ المطارات بالمسافرين وأسرهم بحثاً عن الشواطئ والمناطق التاريخية لقضاء عطلة يتوق إليها الأوروبيون، بعد معاناة عام كامل من الطقس البارد أو ضغوط العمل. لكنّ ثمة مدناً تستقطب رواد الإجازات أكثر من غيرها، ورغم ما يصاحب هذا التدفق السياحي من ازدهار لقطاعات كثيرة، إلّا أن السنوات الأخيرة سجلت احتجاجات متزايدة من السكان في المناطق التي تتربع على قائمة الأكثر جذباً للسائحين في أوروبا مثل برشلونة الإسبانية والبندقية (فينيسيا) الإيطالية.
بعض الاحتجاجات له طابع بيئي مثل فينسيا التي تتهدّدها المياه الجوفية، وبعضها له طابع معيشي مثل برشلونة التي تعيش أزمة سكانية ويرى مواطنوها أن السياح أحد أسبابها. وقد انضمت العاصمة اليونانية أثينا إلى هذه القائمة، إذ من المتوقع أن يبلغ عدد زوارها هذا العام عشرة ملايين سائح أي بزيادة تفوق مليونَي سائح عن العام الماضي.
وتقول وكالة فرانس برس في تقرير لها من أثينا إنّ ثمة تحركات متزايدة لحماية البيئة والتراث الثقافي في العاصمة اليونانية. المشهد في حي "بلاكا" التاريخي كما يصفه التقرير يعجّ بالمطاعم والموسيقى الصاخبة وحركة حقائب السفر ذهاباً وإياباً بين المستوعبات الفائضة بالنفايات، فيما يقول يورغوس زافيريو الذي يقطن الحي منذ ثلاثين عاماً إنه لم يعد قادراً على التعرف على حيّه في وسط أثينا التاريخي، ويرى أنه بات "مهدّداً بالسياحة المفرطة".
ومخاوف زافيريو الذي يرأس جمعية السكان، تشبه تلك التي تعبّر عنها رئيسة جمعية "إيليت" للحفاظ على البيئة والتراث الثقافي ليديا كاراس، إذ تُذكّر بأنّه "أقدم حيّ في أوروبا وكان مأهولاً باستمرار منذ العصور القديمة، ولا يمكننا أن نراه يفقد روحه".
مخاوف بيئية
يقع حي بلاكا الذي تُطلق عليه تسمية "حي الآلهة"، أسفل موقع الأكروبوليس الذي يضمّ البارثينون، وهو معبد يعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد، بلغ عدد زواره 4.5 ملايين سائح عام 2024. يتجول الجميع في هذه المتاهة من الشوارع الخلّابة المرصوفة بالحصى وذات الطابع الشبيه بالقرى، وتصطف على جانبيها المقاهي والحانات ومحالّ بيع التذكارات والكنائس البيزنطية الصغيرة والآثار القديمة والعثمانية. لقد أصبحت أثينا ومنذ انتهاء جائحة كوفيد-19، وجهةً سياحيةً في ذاتها، ولم تعد مجرد نقطة عبور بين المطار الدولي وميناء بيرايوس القريب الذي تنطلق منه رحلات السفن والقوارب إلى جزر بحر إيغه.
الخوف على طابع المدينة وتراثها لا يتقاسمه الجميع، إذ يعبر كونستانتينوس ماريناكيس، وهو يجلس في كشكه لبيع الهدايا التذكارية، عن سعادته بهذا الإقبال على مدينته، قائلاً "إن أوضاع اليونان تتحسن أخيراً بفضل قطاع السياحة المزدهر الذي ساهم في إنعاش الاقتصاد وتوفير فرص عمل". كما يُبدي رئيس بلديه أثينا هاريس دوكاس، في حديث لوكالة فرانس برس، ارتياحه لكون العاصمة اليونانية باتت "من بين المدن العشر الأكثر استقطاباً للزوار في العالم". لكنه يُقرّ بأن مناطق مثل بلاكا أصبحت متخمة بالسياح، ويشير إلى أن مدينته "لم تصل بعد إلى درجة برشلونة" الإسبانية التي يحتج سكانها على مساوئ السياحة الجماعية، لكنه يشدّد على ضرورة التحرك قبل فوات الأوان.
وأُنشئت في الآونة الأخيرة "وحدة تدخل" خاصة ببلاكا بهدف فرض احترام القواعد، بدعم من الشرطة البلدية، في هذا الحي المحمي بموجب مرسوم رئاسي. ويمكن لأيّ ساكن يلاحظ مثلاً أن طاولات أحد المطاعم تحتل أماكن عامة، أو أن سيارات متوقفة على الرصيف، أن يتقدم بشكوى إلى هذه الوحدة البلدية.
وتذكّر ليديا كاراس رئيسة جمعية "إيليت" بأن النواديَ الليلية وحانات بوزوكيا التي تُعزَف فيها الموسيقى اليونانية التقليدية اجتاحت بلاكا بين عامَي 1960 و1980، ما أجبر كثيرين من سكان المنطقة على مغادرتها. وفي عام 1993، صدر في نهاية المطاف مرسوم رئاسي يقضي بإغلاق هذه النوادي، وحماية المناطق السكنية، وتحديد استخدام كل مبنى في الحي.
ويمكن إنشاء فنادق في بلاكا، ولكن في شوارع محدّدة فقط. غير أن المحامي المتخصص في التخطيط المدني ديميتريس ميليساس يلاحظ أن "التفافاً يحصل على هذا التشريع"، إذ "تُحَوَّل منازل بأكملها إلى شقق عدة تُعرَض على منصات" للإيجار قصير الأجل.
وقد يصل عدد السياح في بلاكا صيفاً إلى أربعة أضعاف عدد المقيمين في الحيّ على مدار السنة والبالغ عددهم ألفَي نسمة فحسب، على ما يشرح ميليساس، رغم عدم وجود إحصاءات رسمية، إذ يُجرى التعداد السكاني على مستوى المدينة ككلّ. وقدّم المحامي بوكالته عن "إيليت" مراجعة إلى مجلس شورى الدولة في شأن قانونية 16 مبنى جرى تحويلها بالكامل إلى عقارات للإيجار الموسمي، موضحاً أنها تُخفي في الواقع منشآت فندقية لأنها تحتوي على قاعات استقبال أو تُقدم وجبات الإفطار على الشرفة.
وبالنسبة لوسط أثينا بأكمله، حيث تجاوز عدد شقق الإيجار الموسمي 12 ألفاً عام 2024، ما أدى إلى ارتفاع غير مسبوق في بدلات الإيجار، أقرّت الحكومة المحافِظة حظر أي إدراج جديد لمدة سنة على الأقل لشقق على منصات الإيجار القصير الأجل. لكن كثيرين يشككون في إمكانية تطبيق هذا القانون بسهولة.
(فرانس برس، العربي الجديد)
