شُرفة تطلّ على مرفأ بيروت
عربي
منذ ساعة
مشاركة

من شُرفة "زينة"، الشخصية الرئيسية في رواية رشيد الضعيف "ما رأت زينة وما لم تر"، إلى شهادات عشرين امرأة في كتاب الصحافية دلال معوّض "كلّ ما خسرَت"، مروراً بمعرض الفنانة تغريد درغوث، ووصولاً إلى قرار وزير الثقافة غسان سلامة، الذي وقّعه أمس الأحد، ويقضي بإدراج أهراءات مرفأ بيروت على لائحة الأبنية التاريخية. يستعرض "العربي الجديد" كيف جسّدت الآداب والفنون والقرارات الرسمية أحوال بيروت بعد انفجار المرفأ الذي تحلّ اليوم ذكراه الخامسة.

الكارثة بعيون الهامش الاجتماعي

"الساعة الآن نحو الرابعة بعد الظهر في بيروت... زينة، الخمسينية من العمر، في ثياب الخدمة، تسقي الزرع على البلكون المطلّ على منظر بانورامي هائل: المرفأ في الوسط، ما بين الجهتين الجنوبية والشمالية من بيروت وضواحيها". هكذا يؤثر الروائي اللبناني رشيد الضعيف أن يصف بيروت في الرابع من أغسطس/آب 2020، إنه دخول إلى المدينة من قلب الهامش الاجتماعي إلى تلك الزوايا التي نادراً ما تروى، وتمعّنٌ في كارثة انفجار المرفأ لا من نوافذ السلطة، بل من عيون امرأة عاملة.

اليوم، في الذكرى الخامسة لانفجار مرفأ بيروت، تعود صورة زينة، التي حملت رواية الضعيف اسمها "ما رأت زينة وما لم تر" (الساقي، بيروت، 2023) إلى الواجهة: المرأة التي كانت تسقي الزرع على شرفة وأمامها مدينة منكوبة. تعيش زينة، التي فقدت زوجها في الحرب الأهلية، في مدينة مليئة بالأزمات الاقتصادية والاجتماعية. في صباح يوم الانفجار، تعيش لحظات مشؤومة، ثم يأتي الانفجار ليقلب كل شيء رأسًا على عقب. في طبقية بيروت وفرزها الاجتماعي، تبقى زينة رمزاً لصوت مهمّش لا يدخل الرواية عادةً، لكنه هنا في واجهتها، يراقب ويتلقى الصدمة كما لو أنها قدر يومي من أقدار مدينتنا، وشاهدة علينا، وعلى عدالة مؤجلة.

لكن ما الذي صنعته الآداب والفنون حيال تلك اللحظة المفصلية؟ وكيف قرأ المشهد الثقافي في لبنان انفجار المرفأ؟ أسئلة تُحيلنا إلى نصوص وشهادات ونتاجات إبداعية صدرت خلال الأعوام الخمسة الماضية، توزّعت بين أجناس أدبية عديدة، محاولةً أن توثّق، أو حتى تصرخ في وجه النسيان. وربما نكون، من خلال هذا التراكم، أمام ملامح ما يمكن تسميته بـ"أدب الكارثة"، لا ننسى تزامن انفجار المرفأ مع ذروة انتشار جائحة كوفيد-19، والانهيار المالي، في مزيج ديستوبي لبناني "أصلي".

إنصاتٌ لأصوات النساء

سؤالٌ آخر يطالعنا في كل قراءة جديدة للكارثة: هل كان انفجاراً فعلاً، أم تفجيراً؟ سؤال تُعيد طرحه الصحافية وأستاذة العلوم السياسية دلال معوّض في كتابها "All She Lost ("كلُّ ما خسرَتْ")، الصادر بالإنكليزية عن منشورات بلومسبيري عام 2023. سؤال يتجاوز البُعد الظاهري إلى ما هو أعمق: من المسؤول؟ بوصفه الشرط الشارط من أجل تحقيق المحاسبة والعدالة.

يُفتتح كتاب "كل ما خسرَت" من لحظة الانفجار، ويتّخذ منها مدخلاً إلى سردية أوسع لانهيار لبنان في صورته المعاصرة. من خلال عشرين شهادة لنساء، ترسم دلال معوّض ملامح وطن منكسر، عبر تجارب فردية وجماعية لنساء فقدن أبناءً، وأزواجاً، ومنازل، أو حتى فقد شعورهنّ المباشر بالأمان. بعضهنّ لبنانيات، وأُخريات سوريات هربن من أهوال الحرب في بلدهنّ، ليجدن أنفسهنّ في بلد آخر لا يقلّ تشظّياً.

على مدى ثلاث سنوات أعقبت انفجار الرابع من أغسطس/آب 2020، عملت الصحافية اللبنانية، التي هاجرت بعد الانفجار إلى باريس، على جمع هذه الأصوات، من نساء أُصبن أو فقدن أحبّة وأقارب في عصر ذلك اليوم. في لقاءات متكرّرة، كانت تُنصت بعمق، وتلتقط أدقّ تفاصيل الحكايات والانفعالات، في سعيٍ يبدو وكأنه محاولة لتحمّل جزء من أعبائهنّ الثقيلة، أو لتقاسم ذلك الشعور الجماعي بالذنب: "لماذا عشتُ وماتَ غيري؟"، الذي عبّرت عنه في مقدّمة كتابها.

الأهراءات.. أطلال تشهد على أحوالنا

كما هو الحال مع اللغة والذاكرة، ترك الانفجار بصمته على مشهد المدينة وعمرانها. حيث كانت أهراءات مرفأ بيروت، التي صمد جزء منها في وجه العصف، قد تحوّلت خلال السنوات الماضية إلى أحد أبرز النُصُب الشاهدة على الكارثة، ومع الوقت، باتت رمزاً جماعياً لفداحة ما جرى، بخلاف مبانٍ أخرى طُمست معالمها أو أُهملت بعد الحرب الأهلية. وفي هذا الإطار، وقّع، أمس الأحد، وزير الثقافة غسان سلامة قراراً بإدراجها على لائحة الجرد العام للأبنية التاريخية استجابة لمطلب أهالي الضحايا. هذا القرار يمنع أي تغيير أو هدم للأهراءات من دون موافقة الوزارة، ويمنحها صفة "موقع ذي قيمة تاريخية ووطنية".

في هذا السياق البصري المرتبط بذاكرة المدينة، حضرت الأهراءات أيضاً في معرض الفنانة التشكيلية تغريد درغوث "من ينظر إلى البحر: الإنسان والأرض"، الذي أُقيم في خريف العام الماضي في غاليري صالح بركات. في هذا المعرض، التُقط مشهد المرفأ من زاوية أخرى، حيث برزت الأهراءات وتمثال المغترب اللبناني المنتصب قبالته تجسيدين رمزيين، حيث حملت اللوحات تعبيرية قاسية، تستدعي أسلوب الفنانين الألمان ما بعد الحرب العالمية الثانية.

بعد دمار محترفها في مار مخايل نتيجة انفجار المرفأ، اضطرت درغوث إلى مغادرة المدينة والعيش والعمل في دبي. تنتمي الفنانة إلى جيل من التشكيليين الشباب الذين تأثّروا بتعبيرية وتجريدية السوري الألماني مروان قصاب باشي، حيث الكثافة اللونية تصنع المشهد. في هذا الفن، لا مكان للمجاملات أو للتوريات؛ فالواقع مُعرّىً، وإن تضمّن بعض العناصر الطبيعية، تبقى الحصة الأكبر فيه للنفي والسلبية.

تذكير خافت 

رغم الثقل الثقافي والإبداعي الذي أنتجته السنوات الخمس الماضية حول انفجار مرفأ بيروت، تكاد الفعاليات الثقافية في الذكرى الخامسة تغيب هذا العام، كأنّ ما كُتب ورُسم ووُثق كان كافياً أو أن الحكاية لم تعد تحتمل المزيد من السرد. وربما يُفسَّر هذا الغياب أيضاً بتتابع الأهوال التي شهدتها المنطقة، من الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان إلى استمرار الإبادة في غزة، ما يجعل المشهد الثقافي محاطاً بظلال مأساوية جديدة.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية