حرب ترامب التجارية: جنون أم استعمار مكنون؟
عربي
منذ ساعتين
مشاركة

في خطوة تختزل ثلاثية العظمة، والجشع، والابتزاز، وقَّع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الخميس 31 يوليو/ تموز الماضي، أمراً تنفيذياً يُفعِّل فرض رسوم جمركية جديدة على شريحة واسعة من الشركاء التجاريين للولايات المتّحدة، على أن تدخل حيِّز التنفيذ بدءاً من السابع من أغسطس/ آب الحالي. تمثِّل هذه الخطوة تصعيداً مهماً في أجندته الاقتصادية ضدّ الدول التي لم تسارع بتوقيع صكوك الولاء التجارية.

شملت الإجراءات الجديدة فرضَ رسوم بنسبة 39% على واردات سويسرا، و35% على كندا، و30% على جنوب أفريقيا، و25% على الهند، و20% على تايوان، و15% على كلّ من الاتّحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية، بينما احتفظت دول كالمملكة المتّحدة بالمستوى السابق البالغ 10%، في حين كانت الرسوم على السلع الأوروبية قبل تولِّي ترامب حكمَ البيت الأبيض لا تتجاوز 4.8% في المتوسِّط.

حوَّل الرئيس ترامب الرسوم الجمركية إلى سلاحٍ سياسي بيده، يُخضع به خصومه، ويُجبر الدول من خلاله على الانصياع لتقلُّبات رأيه. ففي منعطفٍ صادم، نفَّذت واشنطن تهديداتها مُبكِّراً يوم الأربعاء 30 يوليو الماضي بفرض رسوم تصل إلى 50% على البرازيل، انتقاماً لمحاكمة حليفه اليميني المتطرِّف الرئيس السابق جايير بولسونارو.

حوَّل ترامب الرسوم الجمركية إلى سلاحٍ سياسي بيده، يُخضع به خصومه، ويُجبر الدول من خلاله على الانصياع لتقلُّبات رأيه

وتتكرَّر اللعبة مع كندا، التي يختزلها ترامب في كونها مجرَّد "ولاية محتملة" تحت حكم بلاده، فلم يتردَّد في استغلال موقف أوتاوا الداعم لفلسطين ذريعة لنسف أي اتّفاقٍ بين البلدين. حتى الهند، التي لطالما وصفها ترامب بـ"الصديق الجيِّد"، فوجئت بإقرار رسوم بنسبة 25% على خلفية شرائها السلاح والطاقة من روسيا، الأمر الذي يُجسِّد تحوُّل التجارة إلى ميدان انتقام، تُستباح فيه قوانين الاقتصاد تحت وطأة إملاءات السياسة. في انعطافة هزّت موازينَ التجارة العالمية، أشعل الرئيس ترامب فتيل ما سمّاه "التعرفة الجمركية المتبادلة" في "يوم التحرير" في الثاني من إبريل/ نيسان الماضي، مُطلِقاً وابلاً من الرسوم غير المسبوقة على صادرات العديد من الدول إلى أميركا.

ولم يكد ينتهي الشهر حتى أمهلَها مهلة تسعينيّة، جمَّد خلالها القرار حتى التاسع من يوليو الماضي، ثمّ مدَّده إلى غاية أغسطس الحالي. وبانقضاء المهلة دون استجابة كاملة لمطالب واشنطن، أقدم ترامب على خطوته الحاسمة، وفعَّل الرسوم الجائرة على الدول المتماطلة، مُتذرّعاً بتقليص العجز التجاري الذي وصفه بالخطر الداهم على الاقتصاد والأمن القومي الأميركي، فيما تُلمِّح تحليلات خلف الجدران السياسية إلى أنّ أحد الأهداف الخفيَّة هو تمويل التخفيضات الضريبية المحليّة.

في مسعاه لفرض هيمنته التجارية على العالم، نجح الرئيس ترامب جزئياً عبر عقد صفقات ثنائية مع أطرافٍ كالاتِّحاد الأوروبي وبريطانيا واليابان وفيتنام وكوريا الجنوبية، لكن أحلامه الطموحة تحطَّمت على صخرة الواقع، حين فشل في تحقيق وعده الشهير "90 اتِّفاقية خلال 90 يوماً". فبعد مرور 120 يوماً بعد "يوم التحرير"، لم تُبرم إدارته سوى ثمانية اتّفاقات بشكل يتناقض مع أهدافه المُعلنة. وقد تجلّى هذا الإخفاق جلياً مع دولٍ ككندا والبرازيل والمكسيك وتايوان والهند، حيث قابل ترامب تردُّدها بفرض رسوم جمركية صادمة.

أمّا على الجانب الصيني، فقد أسدل الطرفان الستار مؤقَّتاً على حربهما التجارية بهدنة هشّة شملت تعليقاً جزئياً للرسوم وتأجيلاً لبعضها، بينما ظلَّت أخرى سارية المفعول. ولم يُخفِ ترامب تردُّده في تمديد هذه الهدنة بعد انتهائها المُقرَّر في 12 أغسطس الحالي، تاركاً باب الاحتمالات مفتوحاً بين تفعيل الرسوم الهائلة أو استئناف المفاوضات. ورغم غياب بكين عن المشهد الأخير، فإنّها تظلّ المتغيِّر الأصعب في معادلة ترامب، الأمر الذي أكَّدته جولات المفاوضات المُكثَّفة خلال الفترة الأخيرة من جنيف في مايو/ أيّار إلى لندن في يونيو/ حزيران الماضيين، وانتهاءً بجولة استوكهولم الأخيرة.

لا تقف تداعيات رسوم ترامب عند حدود الحرب التجارية، بل تتحوَّل إلى تسونامي اقتصادي يكتسح آليات التسعير العالمية، ويُغذِّي نيران التضخُّم. فالرسوم الجمركية، في جوهرها

لا تقف تداعيات رسوم ترامب عند حدود الحرب التجارية، بل تتحوَّل إلى تسونامي اقتصادي يكتسح آليات التسعير العالمية، ويُغذِّي نيران التضخُّم. فالرسوم الجمركية، في جوهرها، ما هي إلا ضرائب مُقنّعة ترفع تكلفة الواردات، فتنعكس فوراً على المستهلك الأميركي والمنتج الوسيط. والأمر لا يتوقَّف عند هذا الحدّ، فتراخي المنافسة المحلية بفعل الحماية الجمركية يُمكِّن الشركات من رفع الأسعار ويخنق روح الابتكار. كما تُربك العواصف التجارية التخطيط طويل المدى وتُعطِّل الاستثمار العالمي، لتُشعل فتيل تضخّم عابر للقارات يرفع تكاليف الواردات ويُبطئ النمو. تُهدِّد هذه العوامل مجتمعة مستويات المعيشة في أميركا، مُؤكِّدة القاعدة التاريخية "البلد المُشهر للرسوم هو الخاسر الأكبر".

والأخطر أنّ تهوُّر هذه السياسات قد يشوِّش بوصلات البنوك المركزية، ويجعلها عاجزة عن التوفيق بين كبح التضخُّم ودعم النمو، الأمر الذي قد يدفع اقتصادات كبرى إلى حافة الركود. من غير المستبعد أن تدفع المنطقة العربية ثمناً غير مباشر لحروب ترامب التجارية التي تُنهك سلاسل التوريد وتُلهب تكاليف النقل، وتفاقم تقلُّب أسعار السلع الأساسية، وتعيد رسم خريطة الاستثمار العالمي. فبعد أن فرضت إدارة ترامب رسوماً جمركية على دول عربية، تراوحت بين 15% للأردن، و25% لتونس، و30% للجزائر وليبيا، و35% للعراق، و41% لسورية، تواجه الأسواق الناشئة، وعلى رأسها مصر، خطر انكماش تدفُّقات الاستثمارات قصيرة ومتوسّطة الأجل، وهي شريانٌ حيوي لتعزيز احتياطاتها النقدية وتمويل العجز.

لا تقتصر هذه التبعات على تقلُّبات الأسعار فحسب، بل تمتدّ لتهديد الاستقرار المالي الإقليمي ككلّ، في مشهدٍ يُحوِّل السياسات التجارية إلى قوّة تدميرية تضعف نسيج الاقتصادات الهشّة. خلاصة القول، تدلّ الرسوم الجمركية، التي باتت سيفاً مسلَّطاً على رقاب حلفاء الولايات المتّحدة ككندا والهند رغم طاولات المفاوضات، على تمسُّك ترامب بالنهج الجديد الذي يحوِّل التجارة إلى سلاح دائم لإملاء شروط الهيمنة. إنّها مراجعة جذرية للنظام العالمي تُصاغ بمفردات المصلحة الأميركية الخالصة، حيث تذوب قواعد الاقتصاد في بوتقة السياسة، فتمزج بين المصلحة الوطنية والرهانات الانتخابية والمشاريع الجيوسياسية.

لذلك ينبغي على الدول النامية، ولا سيَّما العربية منها، أن تتجاوز مجرَّد التكيّف مع هذه العاصفة، وتتَّجه نحو تشذيب استراتيجياتها بذكاء ودهاء، من خلال تنويع الشراكات، وتعزيز الإنتاج المحليّ، وصياغة تحالفات إقليمية تفاوضية تصمد أمام الأعاصير القادمة.
 

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية