الاستعمار المتحفي الفرنسي... ذاكرة أفريقيا محتجزة في مستودعات باريس
عربي
منذ يومين
مشاركة

تحتجز مستودعات المتاحف الفرنسية حوالي 67 ألف قطعة أثرية منهوبة من دول أفريقية احتلتها باريس التي تتذرع بمبدأ قانوني، أرسي قبل قرنين أثناء الفترة الملكية لمنع إعادة المقتنيات إلى مجتمعاتها المحرومة من ذاكرتها.

- فشلت ضغوط الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي في إثناء الدكتور زاهي حواس عالم المصريات ووزير السياحة والآثار السابق، عن قراره بمنع بعثة علمية فرنسية من العمل في قرية سقارة بمحافظة الجيزة شمالي مصر، إذ دعمه الرئيس السابق حسني مبارك، بعدما أبلغه عن اختفاء 5 لوحات أثرية من مقبرة في الأقصر عملت فيها البعثة، ليجري إيداع القطع المسروقة في مستودع متحف اللوفر.

في عام 2010، راسل حواس الجهات المعنية للمطالبة باسترداد مصر آثارها، لكن تلكؤهم دفعه لاتخاذ الإجراء الذي أثمر بالفعل عن استعادتها. يستطرد حواس موضحا تمكنه من استعادة 6 آلاف قطعة أثرية خلال السنوات العشر التي قضاها أمينا عاما للمجلس الأعلى للآثار (حكومي)، ذاكرا في هذا الإطار التحقيقات التي تجريها السلطات الفرنسية مع أمناء في متحف اللوفر لتورطهم بشراء قطع مسروقة، ما يعتبره "فضيحة تعكس التصرفات الاستعمارية للمتاحف العالمية".

لهذا الغرض أطلق حواس قبل سنوات حملة لجمع مليون توقيع على عريضة تطالب باستعادة القبة السماوية (المعروفة أيضا بـ"زودياك دندرة") من متحف اللوفر وحجر رشيد من المتحف البريطاني، تضاف إليها عريضة مشابهة مخصصة لتمثال نفرتيتي النصفي المعروض داخل متحف برلين الجديد. يقول حواس لـ"العربي الجديد" إن حملته تحظى بدعم السلطات المصرية، و"نحن بانتظار جمع العدد المحدد من التواقيع للانتقال إلى المرحلة التالية، أي تقديم طلب قانوني للسلطات الفرنسية عبر أحد المحامين".

بمزيج من الواقعية والمبدئية يوضح حواس: "يحتوي مستودع اللوفر على آلاف القطع الأثرية المصرية وغيرها من دول أفريقية عديدة، وباعتراف إيمانويل ماكرون خرجت الآثار بالقوة من أفريقيا. "لا أريد استعادة كل ما تحتويه المتاحف الفرنسية، بل هذه القطعة المسروقة كبادرة حسن نية".

الدكتور زاهي حواس، عالم آثار مصري تبوأ عدة مناصب رسمية. إلى جانب إصداراته المتعددة من كتب ومقالات علمية، ساهم في العديد من أعمال التنقيب. أحد أوجه أنشطته هو العمل على استعادة آثار بلاده: "ليس فقط ما يسرق في وقتنا المعاصر، بل أيضاً ما سرق وسلب ونهب في الماضي"، على حد تعبيره.

تورطت بعثة أثرية فرنسية في نهب لوحات أثرية مصرية

لدى سؤاله عما يمتلكه من ردود على الحجج التي يقدمها الفرنسيون لتبرير وجود تلك القطع الأثرية في متاحفهم، يرد حواس: "أيا تكن حججهم لن تنفي مصريتها وما سرق يجب أن يعود بلا أي شروط".

عدم قابلية التصرف

رغم تسلح زاهي حواس بالحق، على حد قوله، يتمسك الجانب الفرنسي بتصدير مزيج من الحجج القانونية والتاريخية التي تحول دون تجاوبه الكامل مع طلبات عدد من الدول باستعادة آثارها الموجودة في فرنسا وعلى وجه التحديد طلبات الدول الأفريقية (في الادبيات الفرنسية المقصود بأفريقيا هي الدول الواقعة جنوب الصحراء الكبرى) التي خضعت للاستعمار الفرنسي.

أبرز تلك الحجج هو التمسك بمبدأ "عدم قابلية التصرف" الوارد في عدد من النصوص القانونية والذي تأتي على ذكره جميع المراجع التي تعالج ملف استعادة الدول لآثارها. فالمادة 5-451 من قانون التراث اعتبرت المقتنيات التي تعود ملكيتها للمتاحف جزءا من الكيان العام، ما يمنع "التصرف بها". لتضيف أن إخراجها من الكيان العام مرهون بموافقة المجلس الأعلى لمتاحف فرنسا.

بالتوازي، نصت المادة 1-3111 من قانون الملكيات العامة على عدم إمكانية التصرف بالأصول المنقولة وغير المنقولة التي تعود ملكيتها لمؤسسات الدولة وللمجالس المحلية، "مبدأ لا يسقط بالتقادم"، بحسب المادة نفسها. يوضح المحامي إيمانويل بييارا، أن المبدأ أرسي قبل الثورة الفرنسية، لمنع الملوك من التصرف على هواهم بالأملاك العامة وممتلكات الدولة، كتقديمها على شكل هدايا. يشمل هذا المقتنيات الأثرية التي اعتُبرت جزءا من "الكيان العام": "من الناحية القانونية يُمنع على فرنسا التفريط بها، بل ذهب البعض أبعد من ذلك ليحظر خروجها من الأراضي الفرنسية".

بييارا متخصص في قوانين الفنون والتراث، أصدر كتابا في عام 2011 بعنوان "هل يجب إعادة الأعمال الفنية والأثرية؟". صفته الحقوقية، كمحام وباحث، جعلته أحد المتخصصين المعتمدين لدى اللجان البرلمانية عند صياغة أو تعديل قوانين. ويتوقف المحامي الفرنسي في حديثه لـ"العربي الجديد" عند ما يعتبره "خطورة المس بهذا المبدأ"، فالقفز من فوقه عشوائيا سيفتح بابا يصعب إغلاقه: "قد نشهد مثلا مطالبات داخلية ببيع آثار ومقتنيات فنية لتسديد ديون فرنسا".

 

السنغال في مواجعة نموذج ساحل العاج

وفقا لبييارا، على الدول المعنية وخاصة الأفريقية معرفة كيفية مخاطبة الجانب الفرنسي لإدارة هذا الملف بصورة سليمة: "بدلا من النموذج السنغالي الذي يطالب باستعادة جميع المقتنيات دون رؤية واضحة، يمكن الأخذ بنماذج أخرى كساحل العاج التي أرسلت إلى الجانب الفرنسي في العام 2018 لائحة بـ 1200 قطعة أثرية طالبت باستعادتها لاستكمال ما ينقصها من مجموعات في متاحفها. كما ارتكز طلبها على حجة متينة تفيد بامتلاك فرنسا نسختين طبق الأصل لعدد من القطع".

برأي لبييارا، التحرك بناء على منهجية واضحة سيقابل بتجاوب فرنسي بدليل نجاح جمهورية بنين باستعادة 26 قطعة أثرية في العام 2021 بعدما أثبتت نهبها على يد الجيش الفرنسي عام 1892 عند دخوله مدينة "أبوميه"، عاصمة مملكة داهوميه آنذاك. بناء عليه، أصدرت فرنسا قانونا استثنائيا أخرج هذه القطع من "الكيان العام" ما جعلها غير مشمولة بمبدأ عدم قابلية التصرف".

صحيح أن القطع الـ26 التي استعادتها بنين ليست سابقة تاريخية، لكنها تكتسب رمزية خاصة وفقا لماري سيسيل زانزو التي تحمل الجنسيتين الفرنسية والبينينية وتعمل في مجال التسويق الفني والثقافي من خلال ترأسها مؤسسة زانزو منذ عام 2005. هذه المؤسسة التي اتخذت من مدينة "أويدا" في بنين مقرا لها، تهدف إلى "نشر الثقافة الأفريقية"، ما يدفعها إلى التحرك كمجموعة ضغط دعما لجهود اعادة المقتنيات الأثرية إلى دولها الأصلية.

وللتوضيح، تضع زانزو الأمور في سياقها الزمني: "خلال زيارته إلى بوركينا فاسو، ألقى إيمانويل ماكرون خطابا في 28 نوفمبر/تشرين الثاني تعهد فيه بتوفير الظروف المواتية، خلال خمس سنوات، لإعادة القطع التراثية الأفريقية بصورة نهائية أو مؤقتة وهو ما بات يعرف بخطاب واغادوغو". تضيف زانزو: "تلا هذا الخطاب تشكيل لجنة مكونة من المؤرخة الفرنسية بينيديكت سافوا والأكاديمي السنغالي فيلوين سار، كلفت إعداد تقرير حول آلية إعادة القطع التراثية الثقافية الأفريقية وهو ما بات يعرف بتقرير "سار – سافوا" بعد صدوره في 30 نوفمبر 2018".

 

67 ألف قطعة أثرية منهوبة من دول أفريقية

وفقا لزانزو، وفرت هذه الخطوات زخما سياسيا لم يكن متوفرا في السابق: جمهورية بنين قدمت طلبا رسميا لاستعادة القطع الـ 26 منذ عام 2016 (أي خلال ولاية فرنسوا هولاند) لكنه عُرقِلَ بذريعة "عدم قابلية التصرف". توضح زانزو أن السلطات الرسمية البنينية ومن خلفها المجتمع المدني، تعاملت في حينها بإيجابية حذرة مع خطاب ماكرون.

على عكس تصلب زاهي حواس في بعض المواقف، تقول زانزو إن المرونة التي أبدوها خلال المحادثات كانت للتأكد من صدق نيات الطرف الفرنسي وهو ما تكلل باستعادة القطع الأثرية المطالب بها حتى أن: "خطاب ماكرون ثم تقرير سار - سافوا وأخيرا استعادة بنين لـ 26 قطعة أثرية، أحداث باتت تذكر كقالب متسلسل لتتحول إلى علامة فارقة في ملف استعادة الآثار الأفريقية من فرنسا". تشير زانزو إلى أن أبرز الطلبات التي تُدرَسُ حاليا هو طلب ساحل العاج استعادة "الطبل الناطق" وطلب بنين استعادة "تمثال الاله غوا".

وفي التاسع من إبريل/نيسان الماضي أقرت لجنة الثقافة في مجلس الشيوخ إعادة الطبل الناطق، وفي السادس عشر من يوليو/تموز أُقرت الجمعية العمومية القانون رقم 2025-644 بشأن إعادة الممتلكات الثقافية إلى ساحل العاج، ونشر في الجريدة الرسمية في السابع عشر من نفس الشهر.

استعادت دولة بنين 26 قطعة أثرية في عام 2021

تقرير سار – سافوا الذي أشارت إليه زانزو بات مرجعا لا مفر من ذكره عند التطرق إلى مطالبة الدول الأفريقية استعادة مقتنياتها الأثرية من فرنسا. وفقا لبياناته، يوجد في فرنسا ما لا يقل عن 98 ألف قطعة أثرية تعود إلى دول أفريقيا جنوب الصحراء. السواد الأعظم من هذه القطع معروض أو مخزن في متحف "كاي برانلي" الباريسي بمجموع قدر بـ 66980 قطعة. تتصدر تشاد قائمة الدول الأفريقية التي تعود لها ملكية القطع الموجودة داخل المتحف المذكور بـ 9296 قطعة، تليها الكاميرون بـ 7838 قطعة، ثم مدغشقر بـ 7781 قطعة، دول خضعت ثلاثتها للاستعمار الفرنسي.

 

حرمان المجتمعات من التواصل التاريخي

أوضحت البيانات الخاصة بالمتحف والواردة في التقرير أن 785 قطعة وصلت إلى فرنسا قبل عام 1884 (انطلاق أعمال مؤتمر برلين الذي نظم الاستعمار الأوروبي لأفريقيا). كما دخل إلى فرنسا بين عامي 1885 و1960 ما مجموعه 44691 قطعة، تضاف إليها 19388 قطعة بعد العام 1961. أما القطع المتبقية والبالغ عددها 2379 قطعة، فما يزال تاريخ دخولها إلى فرنسا مجهولا.

وفقا للتقرير: "مصادرة قطع أثرية تشكل جزءا من الهوية الثقافية لأجيال من الأفارقة، يلحق ضررا ثقافيا واجتماعيا وأكاديميا. فالمجتمعات الأفريقية الشابة محرومة من ماضيها". لكن توصيات التقرير أدت إلى سجال ما يزال مستمرا حتى اليوم. برأي سار وسافوا، عبارة "استعادة" تعني عودة الشيء إلى "المالك الشرعي" ما يعني أن الاستحواذ على القطع الأثرية جرى بأساليب "مستهجنة أخلاقيا" (سرقة، احتيال، نهب، سلب، إكراه...). وعليه أوصى التقرير السلطات الفرنسية بتبني هدف "الإعادة النهائية وغير المشروطة".

للدفع قدماً بمسار استعادة الدول الأفريقية لمقتنياتها الأثرية، استعرض التقرير "سلسلة من الإيجابيات" التي من شأنها "وضع الأمور في نصابها". من جانب آخر وعلى اعتبار أن بعض هذه المقتنيات تشكل جزءاً من الهوية الثقافية لعدد من القبائل، ستساهم عودتها إلى أفريقيا بتعزيز الروابط الاجتماعية والثقافية لوجودها في "مكانها الطبيعي". ومن الأمثلة التوضيحية التي ذكرها التقرير حالة قبيلة "العوماريين" التي يتوزع أفرادها على أربع دول (موريتانيا، مالي، السنغال وغينينا). رغم تشتتها، تحرص القبيلة على عقد تجمع سنوي تخليداً لذكرى زعيمها الروحي، الحاج عمر الفوتي الملقب بـ "عمر تال"، مؤسس سلطنة تكرور (التي تعرف أيضاً بدولة التيجانيين).

يوضح التقرير أن جزءاً من مقتنياته موجودة داخل متحف التاريخ الطبيعي في مدينة "لو هافر" الفرنسية وتشمل 518 مخطوطة. إعادتها إلى أفريقيا سيساهم في "كسر الحواجز الجغرافية". علاوة على ذلك، اعتبر التقرير أن وجود المقتنيات في مكانها الطبيعي سيشكل بدوره قيمة مضافة للأبحاث الأكاديمية.

 

سجال مستمر

ما تضمنه التقرير جعله عرضة للتصويب، ليعتبر بييارا أنه لم يكن محايداً بعد تصنيفه جميع القطع الأثرية الأفريقية "فاقدة لشرعية الوجود في فرنسا" من دون أدنى مراجعة تاريخية: "التقرير اعتبر أن غياب مستند يثبت عملية البيع والشراء دليلٌ على نهبها، من دون الأخذ في الحسبان أن ابرام هذا النوع من العقود داخل البيئة الأفريقية لم يكن معهوداً". كما انتقد بييارا منهجية التعميم: "قارب التقرير الفضاء الأفريقي بشمولية، من دون إدراك للفوارق الثقافية والسياقات التاريخية بين البلدان وهي نتيجة طبيعية لعدم تخصص كل من سافوا وسار بالشأن الأفريقي". في رأي بييارا، افتقدت اللجنة "المنهجية العلمية بأبعادها السياسية، التاريخية، الحقوقية، الفنية" مما جعل تقريرها أشبه بـ"حملة دعائية".

بينيديكت سافوا ردت، في مقابلة مع "العربي الجديد"، على الاتهامات التي تستهدف تقريرها موضحة أنها أصوات محدودة التأثير بدليل عجزها عن عرقلة مسار إعادة القطع الأثرية الـ 26 إلى بنين. في رأيها، هم أشخاص ينتمون إلى النخبة الباريسية ويفتقدون المعرفة الشاملة والعميقة، مضيفة أن صدى التقرير تردد خارج حدود فرنسا (ألمانيا، الولايات المتحدة...) من دون تعرضه لهذه الانتقادات.

تكليف سافوا بإعداد التقرير يعود لمسيرتها الأكاديمية بين فرنسا وألمانيا، فهي بروفيسورة في التاريخ في جامعة برلين للتكنولوجيا، كما انضمت بين 2016 و2021 إلى "كوليج دو فراس "إحدى أبرز المؤسسات العلمية الفرنسية. تتمحور أبحاثها حول: تبادل ونقل المقتنيات الفنية والثقافية، وتاريخ المتاحف، ونهب الأعمال الفنية.

 

المسؤولية أمام الماضي الاستعماري

توضح سافوا أن الانتقادات بلغت حد مجافاة الحقيقة: "لم نوص إطلاقاً بجمع المقتنيات الأفريقية وشحنها إلى أفريقيا بشكل أحادي، بل أكدنا وجوب تلقي طلب رسمي من الدول الأفريقية. ما طالبنا به في المقابل هو ضرورة وجود نية وقرار مبدئي فرنسي بإعادة المقتنيات. حتى لو وصلت بعض القطع إلى فرنسا بصورة شرعية، لكن بعضها على قدر كبير من الخصوصية والرمزية ما يجعلها أكثر أهمية بعيون الأفارقة. بالتالي لا بد من التحلي بهذه الروحية".

ما يحفز سافوا إلى التمسك برأيها هذا، هو عدد القطع المعروضة في صالات متحف "كاي برانلي" الذي لا يتخطى الألف قطعة، بينما أودعت القطع الأخرى في المستودعات في دليل على امتلاك فرنسا فائضاً منها، ما يدحض ادعاء البعض أن استعادة الأفارقة لمقتنياتهم سيفرغ المتاحف الفرنسية.

زانزو دافعت من جهتها عن مضمون التقرير. وفقاً لها، السياق الاستعماري يجعل عملية انتقال المقتنيات إلى فرنسا مشكوكاً في أمره نظراً إلى العلاقة غير المتكافئة بين المُستَعمِر والمُستَعمَر: "لن أنكر عمليات البيع والشراء، لكن هل تمت في ظروف مثالية؟".

في هذا الإطار ذكر تقرير سار-سافوا مثالاً يرتبط بالحملة الفرنسية الشهيرة "جيبوتي-داكار" التي جالت في عدة بلدان أفريقية بين عامي 1931 و1933 لإجراء دراسات في الإثنوغرافيا، ليرد في الصفحة 48: "اشترت البعثة أقنعة من شعوب محلية بقيمة 7 فرنكات للقناع الواحد، ما يعادل ثمن 12 بيضة، فيما بلغ سعر القناع في المزادات الفرنسية آنذاك 200 فرنك". بحسب زانزو: "تقرير سار-سافوا وضع فرنسا أمام مسؤولياتها التاريخية لجهة ماضيها الاستعماري" وهو ما يفسر في رأيها الهجوم الحاد.

 

حجم النهب خلال الحقبة الاستعمارية

تؤكد سافوا كلام زانزو موضحة أن فرنسا وعلى عكس دول أخرى كألمانيا، لم تجر أي نقد ذاتي للحقب السوداء من تاريخها، ما جعل التقرير "صعب الهضم".

تضيف المؤرخة الفرنسية أن سبب الهجوم على التقرير ليس فقط "لوضعه الإصبع على الجرح"، بل لمساهمته في هدم بعض السرديات: "روج البعض أن معظم المقتنيات الأثرية الأفريقية وصلت إلى فرنسا بعد الحقبة الاستعمارية في تلميح إلى فساد النخب الأفريقية، لكن الأرقام أظهرت العكس بدليل أن 66% من المقتنيات الأفريقية الموجودة في متحف "كاي برانلي"، وصلت إلى فرنسا خلال الحقبة الاستعمارية. علاوة على ذلك، بادر متحف "كاي برانلي"، بعد نشر التقرير، إلى مراجعة ما جلبته "حملة جيبوتي-داكار" معها من مقتنيات والمقدرة بـ 3600 قطعة".

"العربي الجديد"، استفسر من سافوا عن سبب حصر التقرير بالدول الأفريقية جنوب الصحراء الكبرى وتجاهل دول أفريقية أخرى أو حتى بلدان غير أفريقية. سافوا ردت أن رسالة التكليف الصادرة عن إيمانويل ماكرون ألزمتها، مع فيلوين سار، بتناول هذا الحيز الجغرافي دون سواه. لكن وفي رأيها الشخصي، تسعى فرنسا إلى حصر النقاش بهذه المنطقة الجغرافية لسببين اثنين: أولاً تجنب فتح النقاش على مصراعيه ليشمل الآثار المصرية، موضحة أن الخشية من فتح ملف الآثار المصرية يتخطى حدود فرنسا ليصل إلى دول أوروبية أخرى (بريطانيا ...).

زاهي حواس تلقف كلام سافوا بكثير من الحذر والتريث لعدم وجود دليل ملموس حتى الساعة، مؤكداً في المقابل أنهم لن يترددوا في اتخاذ ما يلزم من خطوات إذا صح كلامها.

 

أبعاد المراوغة الفرنسية

ذكرت سافوا مثالاً يوضح أبعاد المراوغة الفرنسية: "جزء من مخطوطات عمر تال كتبت باللغة العربية، ما دفع إلى أرشفتها مخطوطاتٍ عربيةً وليست أفريقية. بالتالي، حصر النقاش بدول جنوب الصحراء ومحاولة استثناء دول شمالي أفريقيا (أو ما يعرف بالمغرب العربي)، سيؤدي حكماً إلى استبعاد المخطوطات المصنفة عربية من المحادثات".

دائماً في الإطار ذاته تعطي سافوا مثالاً آخر يفسر بدوره سبب حصر التقرير والنقاش الفرنسي بدول جنوب الصحراء: "وفقاً لاتفاقيات ايفيان (التي مهدت لاستقلال الجزائر) كان يفترض أن تبقى المقتنيات الأثرية في المتاحف الجزائرية لكن الفرنسيين استولوا على عدد منها خلال مغادرتهم للبلاد، ما يعني أن التطرق إلى الحالة الجزائرية قد يفتح الباب على إشكال أوسع يتعلق بمدى احترام فرنسا لالتزاماتها السابقة".

للتوضيح، تواصل "العربي الجديد" مع سفارة الجزائر في فرنسا، بالإضافة إلى الدكتور محمد لحسن زغيدي (منسق اللجنة الجزائرية للتاريخ والذاكرة والرئيس المشترك للجنة الجزائرية – الفرنسية للتاريخ) والدكتور جمال يحياوي (عضو اللجنة الجزائرية – الفرنسية للتاريخ) لعرض تجربة الجزائر في ما يخص استعادة مقتنياتها من فرنسا، لكن من دون رد من قبلهم.

بالعودة إلى سافوا، تعتبر المؤرخة الفرنسية أن السبب الثاني لتركيز فرنسا على منطقة أفريقيا جنوب الصحراء دون سواها يعود إلى تراجع نفوذها في هذه الدول، ما دفع الرسميين إلى الظن أن طرح ملف إعادة المقتنيات الأثرية سيحد من هذا التدهور.

لم تغب هذه المسألة عن بييارا الذي أشار لـ"العربي الجديد" أن تناول هذا الملف عادة ما يكون للإشارة إلى الدول الأفريقية جنوب الصحراء التي عرفت الاستعمار الفرنسي. وعليه يبدي خشية من محاولة تسديد فاتورة الحقبة الاستعمارية من خلال القطع والمقتنيات الأثرية ومن ثم إغلاق هذا الملف من دون تكبد أي تكاليف سياسية.

 

سردية مختلفة

يتفق المحامي إيف-برنارد ديبي مع كلام بييارا، فآلية مقاربة هذا الملف تدل في رأيه على "سعي المُستَعمِر القديم إلى التوبة على حساب القطع الأثرية". ديبي محام فرنسي – بلجيكي، متخصص في قوانين الفنون وحماية الممتلكات الثقافية. إلى جانب إصداراته المتعددة (كتب، مقالات، مطالعات قانونية) يعمل مستشاراً قانونياً لعدد من تجار التحف والمزادات وشركاتها، أبرزها "جمعية الفنون في حي سان-جرمان-دي-بري" وهو الحي الباريسي الذي يضم أبرز معارض التحف والآثار.

"العربي الجديد" التقى ديبي مع رئيس الجمعية برنارد دولون. افتتح ديبي حديثه بتوضيح التالي: "اعتراضي وتحفظي ليس على فتح هذا الملف وليس على مبدأ إعادة القطع والمقتنيات ذات المصدر الأفريقي إلى بلدانها الأصلية، بل على السياق والسردية اللتين تحيطان به".

يرفض ديبي سردية "نهب الأشرار الأوروبيين لآثار الأفارقة المغلوب على أمرهم"، منادياً بالعودة إلى المراجع التاريخية ذات المصداقية، ولا سيما موسوعة التاريخ العام لأفريقيا الصادرة عن منظمة اليونيسكو والتي تُنصِفُ فرنسا في رأيه، بدليل الرواية المغلوطة المنسوجة حول القطع الأثرية الـ 26 التي استعادتها بنين.

يوضح ديبي: "ما يُروى أن القوات الفرنسية بقيادة الجنرال دودس غزت مدينة أبوميه، أحرقت قصر الملك بيهانزين وسرقت التحف المذكورة. لكن الواقع عكس ذلك، فالفرنسيون هاجموا مملكة داهومي لاعتدائها على بورتو-نوفو (العاصمة الحالية بنين) الخاضعة آنذاك للحماية الفرنسية. عند إدراك الملك بيهانزين خسارته الحتمية، أضرم النار في قصره لإجبار جميع أفراد عائلته على مرافقته إلى المنفى تجنباً لتربع أحدهم على عرش مملكته، هنا أقدم الجنرال دودس على إنقاذ هذه القطع من بين النيران".

يضيف ديبي: "في حينها لم تكن لهذه القطع أي قيمة أثرية إذ صنعت قبل 10 سنوات فقط ولم يكن لدودس أي مطامع شخصية بدليل عدم احتفاظه بها. علاوة على ذلك يجهل الكثيرون أن عبيد بيهانزين الذين حررتهم القوات الفرنسية أضرموا النيران في المملكة انتقاماً، وحتى أ نالجنرال دودس ذاته أسمر البشرة لأصوله الأفريقية، ما يسقط سردية الرجل الفرنسي الأبيض الذي عاث خراباً في مملكة داهومي".

 

تخبط فرنسي

مثال آخر يعطيه ديبي يتعلق بالطبل الناطق، موضحاً أن القوات الفرنسية استولت عليه لرمزيته العسكرية، إذ كان مستخدماً لحشد الجنود: "يجب وضع الأمور في سياقها التاريخي، سواء للتدقيق في الرواية التاريخية أو لتوضيح أن ما أقدم عليه الفرنسيون لم يكن خارج المألوف، بل منسجمٌ مع ظروف تلك الحقبة".

في ما يخص السياق يتوقف ديبي عند خطاب واغادوغو "الارتجالي" على حد تعبيره، إذ لم يكن هذا الملف مدرجاً في النسخة الأولية للخطاب: "في الطائرة التي أقلت ماكرون إلى واغادوغو، تقدم منه مستشاره للشؤون الأفريقية ناصحاً إياه أن يقطع هذا الوعد إذا أراد رفع أسهمه لدى الأفارقة، ليأخذ ماكرون بنصيحته من دون تكبد عناء المقاربة العقلانية".

في رأيه، طرح الملف على هذا النحو هو الإساءة الفعلية للدول الأفريقية: "مثلاً، لماذا لا يتم تناول اللوحات الفنية البلجيكية التي وصلت إلى فرنسا بصورة مشبوهة إبان الحروب التي شهدتها أوروبا في القرون السابقة؟ لماذا الحديث فقط عن الدول الأفريقية؟ السبب هي النظرة الفرنسية الاستعلائية التي تقدم الأفارقة شعوباً ودولاً مُعدِمة وليس أسهل من ارتداء ثوب الطهرانية".

يستطرد ديبي في كلامه مشيراً إلى ما يعتبره تخبطاً فرنسياً بإدارة هذا الملف وهو نتيجة طبيعية للخطوات غير المدروسة في تجسيد للعقلية "الاستعمارية الجديدة". من شأن هذه العقلية، بحسب ديبي، إحراج الأنظمة الأفريقية، خاصة أن عدداً منها لا يضع هذا الملف على رأس أولوياته. لكن طرحه بصورة أحادية من دون مواكبتها بجهود ملموسة، يدفع الرأي العام الأفريقي إلى اتهام حكامه بالتقصير.

هنا تدخل برنارد دولون متناولاً لقاءً جمعه بالرئيس الغابوني الراحل عمر بونغو، قال فيه (بعبارات شعبية): "فرنسا تزعجنا بهذا الأمر"، ليضيف دولون: "للعلم توفي بونغو في العام 2009 أي قبل أن يأخذ الملف زخمه الحالي. رغم ذلك لمس بونغو تلك السلبيات".

زانزو ردت على ديبي نافية التخبط الفرنسي، المشكلة تكمن برأيها في عدم مواكبة المؤسسات الدستورية الفرنسية لجهود ماكرون ما يجعل هذا الملف رهناً بجهود الإليزيه عوض العمل الجماعي: "السلطة التشريعية كما عدد من الوزراء وأمناء المتاحف يتعاملون بنوع من اللامبالاة مع توجهات ماكرون. هي لا تتآمر لعرقلة خطواته، بل تكتفي بالحياد السلبي"، مضيفة أن تحقيق تقدم في ما يخص إعادة المقتنيات إلى أفريقيا سيسهم في تحسين العلاقات الفرنسية – الأفريقية، إذ ستدل على سلوك فرنسي يتسم بالاحترام.

 

تسييس الملف

بينيديكت سافوا اعتبرت من جهتها أن هذا المسار انطلق في فرنسا ولا مجال لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، واصفة الجهود الفرنسية المبذولة بالمتوسطة.

عدة أسباب تفسر في رأيها هذا الإيقاع الفرنسي: علاقة فرنسا بأفريقيا تختلف بين دولة وأخرى، ما يعني أن كل دولة أفريقية تدير هذا الملف على نحو خاص بها. من جهة أخرى، تعتبر سافوا أن المتاحف وتجار التحف ما يزالون محتفظين بثقل يسمح لهم بالتأثير سلباً: "الأجيال الشابة لم تهيمن بعد على إدارات المتاحف وما يزال لدينا أمناء ينتمون إلى المدرسة القديمة التي تستصعب تقديم هذا النوع من التنازلات".

"العربي الجديد" تواصل مع متحف "كاي-برانلي" للوقوف عند ماهية الدور الذي يلعبه. نائبة مدير مديرية الإعلام لوسي كازاسوس أشارت في رد مكتوب أن قرار نقل ملكية أية قطعة أثرية يعود للدولة الفرنسية. في المقابل أكدت انخراط المتحف طوعياً في إجراء بحث علمي وتاريخي غايته توثيق المقتنيات التي يمتلكها للتحقق من مصدرها ومسارها وتاريخها.

في سياق آخر يشير ديبي إلى خلل بنيوي عند معالجة ملف إعادة الآثار، سببه غياب المقاربة السليمة المتمثلة بطرح الإشكالية التالية: "ما الدور المنوط بالفنون وبالمتاحف؟". يتبنى المحامي توجهاً يعتبر المقتنيات الأثرية "ملكية ثقافية عالمية" وأداة لتحفيز التعاون والتبادل الثقافي بين الدول: "عرض آثار أفريقيا في المتاحف العالمية هو مصدر غنى ويساهم بنشر الحضارة والتاريخ الأفريقي، تماماً مثلما تعد لوحة الموناليزا درة متحف اللوفر. مقاربة يجب تعزيزها لنصل يوماً ما إلى عرض الآثار الأوروبية في القارة الأفريقية".

عدم وضع هذه الإشكالية في صلب النقاشات أدى إلى تسييس الملف على نحو نكأ جراح الماضي وزاد الكراهية وأجج التوترات: "هل تظن أن المتاحف الفرنسية والأفريقية في حاجة إلى توجيهات سياسية للتعاون فيما بينها؟ المصادرة السياسية لهذا الملف أجهضت كل الجهود التي بذلت".

يتفق دولون مع كلام ديبي، ذاكراً مساهمة الجمعية في بناء متحف "دو لا ريكاد" في مدينة كوتونو(جنوبي بنين) عام 2015 وتمويلهم شراء قطع أثرية من مزادات فرنسية. مبادرة أطلقها وواكبها روبير فالوا، صاحب "معرض فالوا للفن الحديث والمعاصر" الذي أوضح لـ"العربي الجديد" أن مبادرته كانت لأغراض ثقافية بحتة.

بييارا أكد ما قاله ديبي لجهة ضرورة التعامل مع المقتنيات الأثرية بمسؤولية عابرة للحدود: "الغاية ليست إعادتها هدفاً بحد ذاته، من الطبيعي إذا التأكد من تمتع الدول الأفريقية بالبنى التحتية اللازمة، ليس انتقاصاً منها، بل لقيمتها العالمية التي تعني الإنسانية جمعاء".

 

شروط الاسترداد

في المقابل، لا ترى سافوا أي تناقض بين "الملكية الثقافية العالمية" للآثار من جهة وعملية إعادتها إلى دولها الأصلية من جهة أخرى، بل قد يساهم استردادها في نشر الثقافة الأفريقية: "تعزيز موجودات المتاحف الأفريقية سيتيح لها إبرام اتفاقيات تعاون مع باقي المتاحف العالمية تشمل إعارات متبادلة".

من جانب آخر ترى سافوا أن إعادة الآثار سيفضي إلى تقارب فرنسي – أفريقي، ليس لأن المقتنيات الأثرية ستنتقل من هنا إلى هناك، بل لأن عملية الانتقال ستعيد إحياء النقاشات سواء في ما يتعلق بالحقبة الاستعمارية، أو حيال وجهة المقتنيات ومكان عرضها.

مقابل دعوة ديبي ودولون إلى معالجة هذا الملف بعيداً عن السياسة، تدافع زانزو عن ضرورة وجود حد أدني من الإطار السياسي. زانزو عرضت وجهة نظر تتقاطع جزئياً مع ما أدلى به ديبي بخصوص أهمية انتشار الآثار الأفريقية في مختلف دول العالم: "تحويل القطع الأثرية إلى مادة للحوار الثقافي العالمي مرحب به طبعاً خاصة أن الدول الأفريقية ليست في حاجة إلى استعادة جميع مقتنياتها. في المقابل، يمكن لفرنسا السير على خطى بروكسل التي أقرت بملكية جمهورية الكونغو الديمقراطية للآثار الموجودة في بلجيكا، ما يتيح لكينشاسا سلطة نقلها وتحديد مكان عرضها، في خطوة وسطية تطمئن من يخشى إفراغ واجهات المتاحف، كما تعطي كل ذي حق حقه وتفضي إلى تعاون ثقافي. الأجيال الحالية ليست مسؤولة عما ارتكب على يد أجدادهم، لكن لغة التعاون يجب أن تسود".

يتفق إيمانويل بييارا مع كلام زانزو: "إذا كان من إيجابية تذكر لتقرير سار-سافوا، فهو تأكيده وجوب معالجة هذا الملف بين الدول وليس بين متحف فرنسي وآخر أفريقي".

توجه عبر عنه تقرير أعده المدير السابق لمتحف اللوفر، جان لوك مارتينيز، بتكليف من إيمانويل ماكرون. التقرير الصادر في 27 إبريل 2023، أقر بأهمية دور الجهات الرسمية في هذا المسار الشائك لحسم المسائل الخلافية، ولا سيما بعد تغير الحدود السياسية الأفريقية: "إلى أي دولة ستعود مقتنيات عمر تال؟ هل لمالي حيث كان يقيم (بالنظر إلى الحدود المعاصرة)؟ أم للسنغال التي تعد وريثة سلطنة تكرور؟".

لكن أبرز ما ورد في تقرير مارتينيز هو توصيته بالعمل على إقرار قوانين منفصلة يتعلق كل منها بحالة محددة: قانون لإعادة بقايا الرفات البشرية، قانون لإعادة أملاك اليهود المصادرة بين عامي 1933 و1945 وقانون لإعادة المقتنيات الأثرية التي جرى الاستحواذ عليها خلال الحروب.

في ما يتعلق بالمقتنيات الأثرية، اقترح التقرير آلية لدراسة طلبات استردادها بناء على المعايير التالية: أن يكون الطلب مقدماً من إحدى الدول، وعدم وجود نزاع بين دولتين، أو أكثر، على أي قطعة أثرية وعدم تعارض طلب الاسترداد مع أي اتفاقية ثنائية مرعية الإجراء وإثبات وصول القطع إلى فرنسا بصورة غير قانونية أو غير شرعية وانخراط الدولة صاحبة الطلب في تعاون ثقافي مع فرنسا وتوفير الدولة المعنية ما يلزم من بنى تحتية للمحافظة على هذه المقتنيات وتقديم لائحة دقيقة بالمقتنيات المطلوبة ورفض تسديد أي تعويضات مادية.

 

الأنا الماكرونية

ديبي قارب تقرير مارتينيز بشيء من الإيجابية "إذ لم يوص بإعادة كل شيء"، مبدياً في المقابل تحفظه على منح الكلمة الفصل لرئيس الجمهورية. ينتقد ديبي تعاظم الـ"الأنا الماكرونية" التي تدفعه إلى تطويع كل الآليات لاحتكار القرار.

رأي تعارضه السيناتورة الفرنسية كاترين موارن-ديسايي، التي تستنكر ما أدلى به ديبي وزانزو حيال "دور ماكرون المحوري". تشير السيناتورة الفرنسية في حديثها لـ"العربي الجديد" أن ملف المقتنيات الأثرية الأفريقية مطروح على جدول أعمال مجلس الشيوخ منذ العام 2000 أي قبل دخول ماكرون معترك السياسة.

من وجهة نظرها، بالغا في تقدير أداء رئيس الجمهورية، سلبياً كان أم إيجابياً: "فالبرلمان الفرنسي، متمثلاً بمجلس الشيوخ والجمعية الوطنية، هو صاحب الكلمة الفصل في إخراج أي قطعة أثرية من الكيان العام الفرنسي. كما تعمل السلطة التشريعية على إقرار قانون شامل وموحد (والذي يصطلح على تسميته بالقانون الإطاري) بغرض تنظيم عملية إعادة المقتنيات الأثرية إلى بلدانها الأصلية عوضاً عن النظام المتبع حالياً، أي إصدار قانون استثنائي خاص بكل قطعة أثرية على حدة".

ديسايي عضو في مجلس الشيوخ الفرنسي منذ العام 2004 عن كتلة "اتحاد الوسطيين". وانطلاقاً من صفتها وصلاحياتها البرلمانية ساهمت في الدفع هذا المسار، ولا سيما عند طرح اقتراح القانون الاستثنائي الخاص بـ"إعادة مقتنيات أبوميه الأثرية الـ 26" إلى بنين. في حينها عينت "مقررة اللجنة"، ما يعني تكليفها إعداد تقرير يرفع إلى اللجنة البرلمانية المعنية بمناقشة اقتراح القانون، ودراسة أولية للنص مع ملاحظات وتوصيات.

توضح ديسايي أن التداول لأول مرة بضرورة وضع قانون إطاري، جرى خلال تولي روزلين باشلو وزارة الثقافة (2020 – 2022)، لكن من دون إحراز أي تقدم بسبب معارضة الوزيرة. رغم ذلك سعت مع زملائها إلى إحداث ثغرات في جدار الرفض، لينجح مجلس الشيوخ في إقرار اقتراح قانون في 10 يناير/كانون الثاني 2022 لتشكيل "المجلس الوطني للبحث في تداول وإعادة الممتلكات الثقافية غير الأوروبية". هذا القانون أَسنَدَ للمجلس مهمة تقديم التوصيات والمشورة للسلطات الفرنسية عند تسلّمها طلباً رسمياً لاسترداد قطعة أثرية. وللتوضيح، عينت ديسايي أيضاً "مقررة اللجنة".

 

الكباش السياسي

هذا المجلس لم ير النور لأن اقتراح القانون ما يزال قيد الدراسة والمناقشة في الجمعية الوطنية. رغم ذلك، تعتبر السيناتورة ديسايي أن إقراره لم يعد مجدياً لأن انفراجة حدثت على صعيد القانون الإطاري، لكنه يبقى دليلاً على قدرة السلطة التشريعية في إحداث خروقات والدفع قدماً بمعزل عن رئيس الجمهورية.

الانفراجة بدأت مع تولي ريما عبد الملك وزارة الثقافة خلفاً لباشلو (2022 – 2024)، إذ تبنت خطة عمل على ثلاثة قوانين: ممتلكات اليهود المصادرة، الرفات البشرية والمقتنيات الأثرية. وهذه الجهود أفضت إلى صدور قانون إطاري في 26 ديسمبر/كانون الأول 2023 خاص بإعادة الرفات البشرية وقانون إطاري آخر صدر في 22 يوليو 2023 خاص بإعادة ممتلكات اليهود المصادرة بين عامي 1933 و1945.

لكن القانون الإطاري الثالث المعني بتنظيم عملية إعادة المقتنيات الأثرية إلى بلدانها الأصلية ما يزال عالقاً في أروقة وزارة الثقافة رغم أن النص شبه منجز، وفقاً لديسايي.

التأخر في طرحه على المناقشة البرلمانية مرده إلى حالة عدم الاستقرار السياسي التي شهدتها فرنسا، بحسب السيناتورة الفرنسية: "رغم فوز ماكرون بالانتخابات الرئاسية عام 2022، لكنه فشل في ضمان الأغلبية المطلقة داخل الجمعية الوطنية ما زاد من حدة الكباش السياسي والبرلماني لينصب اهتمام النواب على قوانين أكثر تأثيراً في حياة الفرنسيين. وازداد الأمر سوءاً بعد حل الجمعية الوطنية في العام 2024 لتفضي الانتخابات المبكرة إلى عدم بروز أي أغلبية، مطلقة كانت أم نسبية. يضاف إلى ذلك غياب الاستقرار الحكومي بعد سقوط حكومة ميشال بارنييه وهشاشة حكومة فرنسوا بايرو الحالية".

توضح ديسايي أنها لم تقف مكتوفة الأيدي مع زملائها خلال الفترة الماضية، إذ أقرت لجنة الثقافة في مجلس الشيوخ في التاسع من إبريل 2025 اقتراح قانون استثنائي لإعادة "الطبل الناطق" إلى ساحل العاج. في هذا السياق كشفت ديسايي لـ"العربي الجديد" أن وزيرة الثقافة الحالية، رشيدة داتي، وعدت مؤخراً بإعادة تحريك القانون الإطاري الثالث. واعتذرت عن الخوض في تفاصيله على اعتبار أنه لم يطرح بعد للمناقشة بشكل رسمي، مكتفية بالإشارة إلى نقطتين اثنتين: "يجب إثبات أن القطعة الأثرية المطلوبة تشكل جزءاً من تاريخ الدولة صاحبة الطلب، كما يجب التأكد أن القطعة المذكورة وصلت إلى فرنسا بصورة غير شرعية، ما يستثني مثلاً "مسلة الأقصر" التي تتوسط ساحة الكونكورد الباريسية، إذ أهديت إلى فرنسا في القرن التاسع عشر".

 

مصر لم تقدم طلباً رسمياً

كلام ديسايي دل أن التوجه هو للأخذ بتوصيات تقرير مارتينيز: "على القانون الاطاري تحديد المعايير التي ستحكم عملية إعادة المقتنيات الأثرية وليس فتح الباب أمام إعادة جميع المقتنيات كما ورد في تقرير سار-سافوا".

بينيديكت سافوا ورغم ترحيبها المبدئي بأي قانون إطاري، توقفت عند إمكانية الأخذ بتوصيات تقرير مارتينيز مبدية تحفظها على احتمال اشتراط التعاون الثقافي مع فرنسا وامتلاك البنية التحتية اللازمة. في رأي سافوا، يجب أن يخلو القانون الإطاري المستقبلي من أي شروط مسبقة.

وباعتبارها رئيسة لجنة الصداقة الفرنسية - المصرية في مجلس الشيوخ أوضحت كاترين موران-ديسايي أن ملف استرداد المقتنيات المصرية ليس مطروحاً في أروقة مجلس الشيوخ لغياب طلب رسمي مصري، موضحة أن بوسع القاهرة تقديم طلب فوري أو انتظار صدور القانون الإطاري.

في هذا السياق يؤكد زاهي حواس لـ"العربي الجديد" متابعتهم واطلاعهم على اهتمام الرئيس الفرنسي بهذا الملف. مع ذلك يتمسك حواس بجمع العدد اللازم من التوقيعات قبل الإقدام على أي خطوة، لأن من شأن هذه التوقيعات منح الطلب زخماً أقوى.

واستطراداً، بادرت ديسايي إلى توضيح المسألة التالية: "صحيح أن فرنسا أقرت قانوناً إطارياً خاصاً بالرفات البشرية، لكنه لن يتيح لمصر استرداد المومياءات الموجودة في فرنسا لسببين اثنين: الأول أن القانون استثنى أي رفات التي تعود إلى ما قبل العام 1500 ميلادي والثاني اشتراط أن يكون طلب استعادة الرفات بغرض الدفن وليس العرض".

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية