
رغم تاريخ الذهب السوري العريق وسمعته المرموقة في الأسواق العربية، يعيش هذا القطاع اليوم حالة من التراجع والارتباك، وسط منافسة شرسة من الذهب التركي والخليجي، وتحديات متزايدة في الإنتاج المحلي، في ظل ضيق اقتصادي واضح يفرض على المواطنين خيارات أقل وأوزاناً أخف.
في قلب سوق الصاغة الدمشقي، حيث يتقاطع الحِرفي العتيق مع تطلعات السوق المتغيرة، يقول الصائغ أحمد الخضري: "قبل الأزمة، كان من المستحيل أن تُعرض قطعة أجنبية على الواجهة. اليوم، تجد القطع التركية والخليجية تحتل نصف الواجهة. الزبون يريد موديلاً جميلاً ووزناً خفيفاً، وهذا ما يقدمه المستورد". ويضيف الخضري لـ"العربي الجديد" أن الطلب على الذهب الأجنبي، خاصة التركي، يعود إلى عدة عوامل، أبرزها انخفاض الوزن والأجرة مقارنة مع الذهب السوري إضافة إلى التصاميم الحديثة التي تعجز الورش السورية عن مجاراتها بسبب ضعف الإمكانات الفنية. ويشرح: "نحن لا نملك آلات حديثة، وبالتالي الفينيشنغ لا يصل إلى نفس المستوى. القطعة تختلف من حيث اللون والمصنعية وحتى اللمعة".
هذا الفارق التصنيعي أكّده أيضاً عامر السمان، المدير الإداري في نقابة الصاغة بدمشق وريفها، موضحاً لـ"العربي الجديد" أن "المشكلة ليست في إرادة الشغيل السوري، بل في غياب الآلات الحديثة. نحن نعمل يدوياً، بينما التركي ينتج كميات ضخمة بأحدث التقنيات". ويضيف: "نأمل أن تسمح وزارة الاقتصاد بدخول آلات حديثة بشروط جمركية ميسّرة، لأنه بدونها لا يمكننا المنافسة".
الطلب يتركز على الضروريات
إلى ذلك، يشهد السوق المحلي ضعفاً في القوة الشرائية، يقابله نشاط في حركة البيع، خصوصاً من قبل العائدين إلى مناطقهم المتضررة والذين باعوا ما يمتلكونه من مدخرات ذهبية بهدف الإعمار. يقول السمان: "الناس بدأت تعمّر، وبدأت تبيع الذهب. وفوق ذلك، استيراد السيارات أعطى دفعة إضافية للبيع". أما الصائغ محمد سرور، فيوضح لـ"العربي الجديد" أن "الطلب الحقيقي بات على القطع الصغيرة مثل محبس أو تعليقة بسيطة. هناك بيع، ولكن فقط للضرورة، وليس للزينة". ويضيف سرور: "الزبون السوري لا يتعامل إلا مع عيار 18 أو 21، حتى عيار 24 لا يُفضَّل إلا بالأونصات. كما أن الذهب الأجنبي يُباع غالباً من دون فاتورة، وهذا لا يحمي الزبون ولا التاجر، لذلك نخشى تداوله".
وتشير أرقام نقابة الصاغة إلى أن حجم مبيعات سوق الذهب السوري في دمشق يصل يومياً إلى نحو 400 كيلوغرام، بينما لا تتجاوز كميات الذهب المصنّعة في الورش المحلية 100 كيلوغرام فقط. وهذا الفارق الكبير بين الطلب والإنتاج يعكس بوضوح الصعوبات التي تواجهها الورشات السورية، والتي تعاني من شح الإمكانات الفنية والمالية، وعدم القدرة على تلبية حاجات السوق المتزايدة.
إجراءات رقابة وتوقف آلاف ورش الذهب السوري
في مواجهة تدفّق الذهب المستورد، فرضت النقابة إجراءات صارمة لضبط السوق وحماية السمعة المحلية. كل قطعة ذهب أجنبية تُفحص وتُدمغ في النقابة قبل أن تُطرح للبيع، حسب ما أوضحه الخبير لطفي مطانيوس: "أي ذهب لبناني، تركي، إماراتي يدخل البلاد يجب أن يُفحص، وإذا لم يكن عياره مناسباً للمواصفة العالمية يُكسَّر فوراً". ومن أبرز المعارك التي تخوضها النقابة هي الحفاظ على دقة عيار الذهب السوري، بعد سنوات من التلاعب خلال الأزمة. ويؤكد السمان: "من أولوياتنا ضبط العيارات واستعادة السمعة محلياً وعربياً".
ومن أبرز تداعيات دخول الذهب التركي إلى السوق السورية تعطّل عدد كبير وصل إلى آلاف الورشات المحلية، خصوصاً تلك التي تعتمد على التصنيع اليدوي التقليدي. ويكشف سمير عبيد، صاحب ورشة ذهب، أن "العديد من الورش لم تعمل منذ أكثر من خمسة أشهر بسبب تدفّق الذهب التركي إلى السوق، والذي غيّر توازن العرض والطلب". ويتابع عبيد في حديثه لـ"العربي الجديد": "لم يعد تشغيل العمال مجدياً، فالسوق ممتلئة بالبضائع التركية الجاهزة، التي تُفضّل بسبب وزنها الأخف وسعرها الأرخص. أصبحنا نرى حرفيين ذوي خبرة طويلة بلا عمل، فقط لأنهم لا يملكون آلات متطورة".
هذا التوقّف لا يهدد فقط الإنتاج، بل أيضاً مستقبل الحرفة بحد ذاتها، إذ يُخشى أن تفقد الصناعة السورية تدريجياً عمقها التاريخي إذا لم تُتخذ إجراءات جادة لدعم الورشات وتحديث وسائل إنتاجها.
فارق بسيط بتأثير كارثي
ولا تقتصر التحديات على الفارق في الجودة أو السرعة، بل تمس جوهر القطاع نفسه. فقد أدى الفرق السعري البسيط بين الذهب السوري ونظيره التركي – الذي لا يتجاوز ثلاثة دولارات للغرام الواحد – إلى كارثة حقيقية في السوق المحلية.
وفي هذا الصدد، يقول صاحب ورشة الذهب جورج حبيس: "نحو 20 ألف ورشة توقفت عن العمل خلال الأشهر الماضية، لأن الزبائن باتوا يتجهون تلقائياً إلى الذهب التركي الأرخص وزناً وسعراً، والمصنوع بآلات متطورة". ويضيف: "منذ خمسة أشهر، لم تتحرك السوق بالنسبة لنا، بينما ارتفعت صادرات الذهب التركي إلى سورية بنسبة 45%، أي ما يعادل نحو أربعة ملايين دولار. أليس من الأَولى دعم الورش السورية كي تعود للإنتاج؟".
دمغ الذهب المُهرّب ثغرة خطيرة
كما أن من أبرز الإشكاليات التي تُسهم في فوضى السوق وتضرّ بالمنتج السوري، بحسب عدد من الحرفيين، هي قيام نقابة الصاغة بدمغ الذهب الأجنبي، حتى وإن كان مهرّباً، من دون ضبط للكميات أو مصدر الاستيراد. ويؤكد عدد من الصاغة أن هذه الآلية ساهمت في تحويل السوق إلى بوابة مفتوحة أمام الذهب الأجنبي، حيث يُعامل المُهرّب معاملة المستورد النظامي بمجرد إخضاعه لفحص العيار، من دون النظر في قانونية دخوله.
ويقول أحدهم: "النقابة اليوم تقوم بدمغ الذهب المُهرّب كما تفعل مع أي قطعة نظامية. هذا يعني أن أي تاجر يستطيع إدخال كميات كبيرة من الذهب الأجنبي دون رقيب، ثم يحصل على دمغة رسمية تتيح له بيعه في الأسواق".
هذا ويطالب العاملون في القطاع بوضع حد لهذا الواقع، من خلال تنظيم الاستيراد عبر إجازات رسمية تُحدد الكميات المسموح بها من الذهب الأجنبي، بحيث يُسمح بدخول كميات محددة شهرياً فقط للتجار الملتزمين بالضوابط. ويقول الصائغ حسام داود، أحد أبرز الحرفيين في دمشق، لـ"العربي الجديد": "يجب فرض ضوابط صارمة على الاستيراد، وأن تُمنح الإجازات بكميات محددة لتجار ملتزمين. كما نطالب بفرض رسوم جمركية وضرائب على الذهب المستورد، كما هو معمول به في دول الجوار، لكي نتمكن من تقليص الفجوة السعرية وحماية المنتج المحلي من منافسة غير عادلة". ويضيف داود: "لا يمكن لأي صناعة أن تصمد أمام سلع مستوردة تُعامل بامتيازات داخلية دون دفع ضرائب أو خضوع لضوابط. نحن لا نعارض الاستيراد، لكننا نطالب بالمساواة والعدالة في التعامل بين المنتج المحلي والمستورد".

أخبار ذات صلة.
