
مع تفاقم العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023، لم يعد نقص السلع والمجاعة وحدهما يشكلان الخطر الأكبر على الفلسطينيين، بل بات الحصول على المال نفسه أزمة قائمة بحد ذاتها، حيث تُنتزع من الأهالي نصف مدخراتهم في سبيل الوصول إلى السيولة النقدية، في ظاهرة باتت تعرف محلياً بـ"التكييش". وارتفعت نسبة العمولة التي يضطر المودعون إلى دفعها مقابل تسييل أموالهم المحوّلة إلكترونياً إلى 50%، أي إن ما يصل إليهم فعلياً، نصف القيمة فقط، في معادلة غير عادلة تعني ببساطة أن المال بات يُقسم مناصفة بين صاحب الحق فيه والتاجر أو الوسيط الذي يملك السيولة. ويزداد المشهد تعقيداً مع رفض قطاعات واسعة من السوق الغزي التعامل بالدفع الإلكتروني، ما يضطر الأهالي للجوء إلى "تجار التكييش" الذين يستغلون الأزمة ويحوّلونها إلى مورد ربح على حساب حاجات الناس.
وقد عبّر الموظف في القطاع الحكومي محمد صباح، عن مرارة التجربة التي يمر بها شهرياً، قائلاً: "أتقاضى راتباً يبلغ 3600 شيكل، يقتطع منه قسط قرض بقيمة 1500 شيكل، ثم أخسر نصف الراتب المتبقي مقابل تحويله إلى نقد، لينتهي بي الأمر بمبلغ 1050 شيكلاً فقط، لا يكفيني لأيام معدودة في ظل الارتفاع الهائل في أسعار المواد الأساسية". وأوضح صباح في تصريح لـ"العربي الجديد" أن البنك يقتطع قيمة القرض رغم قرار محافظ سلطة النقد الذي أجّل الاقتطاع حتى مطلع العام المقبل 2026، وهو ما يفاقم حجم المعاناة في ظل أزمات اقتصادية لا حصر لها.
من جانبه، ذكر صاحب محل لبيع الملابس في سوق الشيخ رضوان، وسام صالحة، أن الأسواق باتت ترفض الدفع الإلكتروني منذ أكثر من ثلاثة أشهر، مشيراً إلى أن "التجار والموردين لا يقبلون سوى الدفع النقدي بعملة سليمة غير مهترئة، ما يعمّق الركود التجاري، إذ لا يمتلك الزبائن سيولة كافية للشراء، ويضطر القادرون منهم إلى التضحية بنصف أموالهم في سبيل الحصول على الكاش". وأوضح صالحة في حديث لـ"العربي الجديد" أن الدفع الإلكتروني كان وسيلة لتدوير الحركة التجارية قبل أن تتراجع بسبب الطلب الكبير على السيولة، خصوصاً من المصانع والتجار الذين يحتاجون النقد لتغطية النفقات التشغيلية، في الوقت الذي بات فيه بعضهم يستثمر في "التكييش" ليكون مصدر ربح إضافي.
تجدر الإشارة إلى أن الواقع النقدي لا يتوقف عند هذه الأزمة، بل يمتد إلى أزمة حادة في "الفكّة"، حيث باتت العملة الورقية وخصوصاً فئة 20 شيكلاً مهترئة، ما يفاقم حجم الأموال التالفة مقارنة بالمعروض في السوق. ويزيد هذا التدهور في جودة النقد من الضغط على السيولة، حيث يرفض الباعة والمشترون بعض العملات في المعاملات اليومية، وتستبعد من التداول لتصبح بمثابة "الشيكل الخامل"، ما يرفع من الحاجة لبدائل سليمة نادرة الوجود أساساً.
المودعون يتعرضون لمجزرة مالية في غزة
بدوره، وصف المختص في الشأن الاقتصادي، عماد لبد، المشهد المالي في غزة بأنه "مجزرة مالية صامتة"، مؤكداً أن ما يجري من فقدان المودعين لنصف أموالهم لا يمكن أن يستمر تحت صمت سلطة النقد والبنوك. وقال لبد في حديث لـ"العربي الجديد" إن الجهات المالية تعرف بدقة من هم التجار الذين يسيطرون على السيولة في القطاع وكيف يستخدمون حاجات الناس وسيلة للربح، دون أن تتحرك تلك الجهات لوضع حد لهذه الممارسات، معبّراً عن استغرابه من غياب أي إجراءات عملية رغم مرور قرابة عامين على تفجّر الأزمة.
وأشار إلى أن نسبة النقص في السيولة داخل أسواق غزة تقارب 40% من إجمالي المعروض النقدي، وهو ما يعكس حجم الاختناق المالي الذي يعاني منه القطاع، لافتاً إلى أن هذا العجز لا يرتبط بزيادة الطلب على الكاش فقط مع ارتفاع الأسعار، بل بتراجع مستمر في تدفق العملة الجديدة إلى السوق. ودعا إلى تدخل فوري على عدة مستويات، من بينها الضغط على الجانب الإسرائيلي لإدخال كميات نقدية كافية للأسواق واستبدال العملات التالفة وضمان "البراءة الكاملة" للعملات المتداولة بما يمنع رفضها أو استغلالها من التجار في عمليات "التكييش" التي تنهك الاقتصاد المحلي.
وأوضح أن استمرار أزمة السيولة بهذا الشكل الحاد لا يمسّ قدرة الأهالي الشرائية فقط، بل يهدد النسيج الاقتصادي والاجتماعي بالكامل، إذ بات كثير من التجار وأصحاب المهن الصغيرة غير قادرين على توفير الحد الأدنى من متطلبات العمل اليومية بسبب ندرة النقد، ما ينعكس سلباً على دورة الإنتاج المحلية ويعزز حالة الركود العام في الأسواق. وأضاف: "المنظومة المصرفية اليوم تبدو عاجزة عن أداء دورها الأساسي وسيطاً مالياً موثوقاً، بعدما تحوّلت البنوك إلى خزائن مغلقة لا تصرف منها الأموال إلا بشروط مجحفة يفرضها السوق غير الرسمي". وأشار لبد إلى أن هذه الأزمة تتطلب تحركاً سياسياً وضغوطاً دولية عاجلة على الاحتلال الإسرائيلي من أجل السماح بإدخال كميات كافية من النقد الجديد إلى قطاع غزة، مع ضرورة تفعيل دور سلطة النقد لضبط السوق، والحد من ظاهرة "تكييش الأموال" التي تحولت إلى وسيلة استغلال منظم.

أخبار ذات صلة.
