مرضى السرطان في مصر... البحث عن العلاج رحلة موت بطيء
عربي
منذ 14 ساعة
مشاركة

يعاني مئات آلاف المرضى في مصر من تردي أوضاع المستشفيات الحكومية، ومن عدم توفر أصناف الدواء، لكن تظلّ معاناة مرضى الأورام السرطانية أخطر، فتأخير العلاج أو فقدان الأدوية يهدّد حياتهم.

تحت لهيب شمس يوليو الحارقة، يجلس الثلاثيني المصري أحمد سعيد على الرصيف المقابل لمستشفى "قصر العيني" المطل على نيل القاهرة، في انتظار إشارة للدخول إلى والده المحجوز منذ أيام، داخل قسم العناية المركزة، بعد أن ساءت حالته جرّاء تمكّن مرض السرطان منه، وانتشاره من الكبد إلى الرئتين.
وصل النداء من مساعد الطبيب المعالج لوالده عبر الهاتف، الذي طلب منه القدوم إلى غرفة الطوارئ، والمحظور عليه دخولها إلّا لمدة ساعة واحدة يومياً، ليفاجأ بطلب حمل والده والعودة إلى المنزل كي يقضي أيامه الأخيرة بين أحضان عائلته. استجمع الشاب قواه، وأمسك دموعه المنهمرة، ليستفسر عن سبب الطلب المباغت، فوالده خاض رحلة علاج طويلة، شهدت إجراء تحاليل طبية أنفق عليها عشرات الآلاف من الجنيهات، وطلب خلالها من كل معارفه مساعدته خلال التجول بين أروقة وزارة الصحة، وهيئة التأمينات الاجتماعية للعلاج على نفقة الدولة.
يخبره الطبيب بأن قرار العلاج جاء متأخراً شهوراً عدّة، وأن طول الانتظار تسبب بانتقال الخلايا السرطانية من الكبد إلى أغشية الحجاب الحاجز والرئتين، وأنه لا جدوى من بقاء أبيه في المستشفى، إذ لن يظل حياً لمدة طويلة، لا سيّما أنّ جرعات العلاج الكيماوي المقرّرة له أوشكت على النفاد، ولن يكون لبقائه في المستشفى الجامعي الشهير أيّ فائدة.
هذه القصة المأساوية ليست استثناء في مصر التي يعاني عشرات الآلاف فيها من تأخير العلاج، ونقص العلاج الكيماوي ضمن أزمة حادة في أدوية علاج السرطان، خاصة للمرضى الذين لا يملكون القدرة على دفع ثمن العلاج باهظ الثمن في المستشفيات الخاصة، وكل مريض من هؤلاء مشروط بسلسلة هائلة من الطلبات من أجل ضمه إلى قوائم الانتظار، وإذا ما نجح في الحصول على قرار علاج من جهة ما، يبدأ رحلة البحث عن مستشفى تؤويه أو تتحمل عنه تكاليف الفحص المتكرّر، والتشخيص المنتظم، والتي لا تشملها قرارات التأمين الصحي، فإذا لم ينته المريض من تلك الفحوص خلال فترة زمنية لا تزيد عن شهرين، قبل حصوله على جرعات الأدوية المطلوبة، فعليه أن يعيدها، مرة أو مرات، من دون مبالاة بتطوّر المرض.  
ويتزاحم الآلاف من المرضى يومياً في المستشفيات المصرية التي تعالج الأورام، وأشهرها الأورام السرطانية، وهؤلاء الذين يحقّ لهم العلاج عبر أنظمة تشمل التأمين على نفقة جهات العمل، أو التأمين الطبي للعاملين بالدولة، مع آخرين غير مشمولين بأي غطاء تأميني.
وتبرّر وزارة الصحة بطء الإجراءات بتزايد أعداد المصابين بالسرطان، الذين تخطو 135 ألف حالة جديدة تسجل سنوياً، بينما يقدر العدد الإجمالي، وفق أرقام عام 2024، بنحو 450 ألف مريض، وتبلغ كلفة علاج المريض الواحد في المتوسط ما بين 120 ألف إلى 500 ألف جنيه سنوياً، وفقاً لتقديرات وزارة الصحة (الدولار يساوي 50 جنيهاً تقريباً).

ويعاني الكثير من المرضى نتيجة التوجه الحكومي إلى خصخصة المستشفيات العامة، ودفع المستشفيات التابعة لمراكز  البحوث الطبية والجامعات إلى التشغيل الاقتصادي، الذي يعني توفير الخدمات الطبية بسعر التكلفة، ويتزامن كل ذلك مع خفض ميزانية النظام الصحي، الذي أصبح تحت ضغط زيادة الطلب من المرضى غير القادرين، وهم الغالبية التي تعاني من أزمة اقتصادية متفاقمة خلال السنوات الأخيرة.
من جانبه، يشكّك العميد السابق لمعهد الأورام التابع لجامعة القاهرة، مدحت خفاجي، في امتلاك وزارة الصحة أيّ إحصاءات واقعية حول أعداد مرضى السرطان، مؤكداً صعوبة رصد الأعداد في ظل عدم توفر نظام طبي يشمل المواطنين كافّة يمكّن من تتبع الحالات.
ويشير طبيب الأورام إلى تزايد أعداد المصابين بالأورام السرطانية بأنواعها التي تزيد عن نحو ألفَي نوع، ويتزامن ذلك مع التراجع الواضح في الصحة العامة، وتغير النظم الغذائية، وتفشي التلوث البيئي، ويقول لـ"العربي الجديد": "في ظل عدم وجود متوسط ثابت لتكلفة علاج مريض السرطان، فإنّ بعض الحالات تحتاج إلى علاج يكلف المريض 10 ملايين جنيه، ومريض آخر يمكن أن يشفى بعلاج لا يزيد عن 5 آلاف جنيه، وحسم الكلفة يكون عبر تشخيص الحالة، وكلما كان التشخيص مبكراً، كان العلاج أسرع، وأقل كلفة".
ويؤكد خفاجي: "أغلب مرضى السرطان يتجهون نحو الموت البطيء في رحلة انتظار العلاج على نفقة الدولة، أو تحديد مسار العلاج بإحدى المستشفيات العامة، وذلك بسبب تقلص ميزانية علاج المواطنين، والنقص الحاد في أدوية السرطان، وأدوية علاج الأورام والأمراض المستعصية عموماً. تُحكم (هيئة الشراء الموحّد) الحكومية وضع الأدوية تحت سلطة غير مدنية، تتحكم في المشتريات، وتحدد السعر من دون القدرة على مساءلتها، إضافة إلى تحصيلها قيمة مشتريات الأدوية من الشركات الخاصة من دون أن تستوردها وفقاً للمواعيد المتفق عليها مع منتجي الأدوية والموزعين، ما أحدث فوضى واسعة في سوق الدواء، وعرض المرضى والمستشفيات إلى عجز شبه دائم في أصناف الدواء، مع ارتفاع كبير في الأسعار يحول دون قدرة المواطنين وشركات التأمين والمستشفيات على تحملها".

بدوره، يؤكد مدير المركز المصري للحق في الدواء، محمود فؤاد، أن مرضى الأورام في مصر يعيشون أزمة حقيقية تتفاقم مع تأخر وزارة الصحة في البتّ في الشكاوى، وتأجيل جرعات العلاج لفترات طويلة، ما يعرض حياة الآلاف للخطر.
ورصدت وسائل إعلام محلية نقصاً في أدوية أساسية لعدد كبير من بروتوكولات علاج السرطان، مثل "تاكسول"، و"دوكسوروبيسين"، و"هيرسبتين"، ونقلت عن مصادر طبية أن نقص الأدوية هو نتيجة لتأخر استيرادها بسبب تباطؤ عمليات الاستيراد من "هيئة الدواء الموحّد"، وعدم توفر العملة الأجنبية اللازمة للشراء، فضلاً عن عدم كفاية مخصصات العلاج على نفقة الدولة.
على أبواب معهد ناصر الطبي، شمالي القاهرة، يقف العامل محمد عبد الحفيظ، الذي جاء مع شقيقه المصاب بسرطان الأمعاء من محافظة الشرقية (150 كيلومتراً شرق القاهرة)، لتلقي العلاج، في رحلة تتكرر كل أسبوعين، وكثيراً ما يفاجئ بعد انتظار لساعات بطلب عودته في يوم آخر بسبب نفاد جرعات الدواء التي يحصل عليها، أو لعدم وجودها على الإطلاق، ما يؤخر علاج حالته، ويحولها إلى مرض مستعصٍ مع انتشار الورم من جديد.
في مشهد متناقض، نشرت وزارة الصحة بيانات على صفحاتها بمواقع التواصل الاجتماعي، تظهر أنها وضعت نظاماً جديداً ينظم عمليات الكشف وصرف الأدوية والعلاج في مستشفى "هرمل" الواقع في جنوب القاهرة، مؤكدة أن العلاج المجاني متاح للمواطنين كافّة. 
لكن الواقع يكشف أن المستشفى العام الشهير تحول إلى مركز طبي خاص يحمل اسم "مستشفى جوستاف روسيه الدولي"، وبات يقبل علاج عدد محدود من المرضى بالمجان، في مقابل امتياز خاص يمنحه إدارة المركز الطبي الحكومي لمدة 30 عاماً، وتشغيله وفقاً لأسعار السوق الحرة.

وتسعى وزارة الصحة إلى تعميم التجربة على عشرات المستشفيات، ما يزيد أزمات مرضى السرطان الذين يتكدّسون بالآلاف أمام أبواب الوزارة، وأمام المستشفيات العامة والجامعية، ومكاتب التأمين الصحي بحثاً عن قرار علاج بالمجان، أو يوفر لهم الحد الأدنى من الأدوية وجرعات العلاج الكيماوي التي باتت تؤجل لأشهر، ما يقصر فرصة العلاج الحقيقية على الأغنياء القادرين على دفع كلفة العلاج في المستشفيات الخاصة، أو السفر للعلاج خارج البلاد.
ويقول عضو في مجلس النواب، فضل عدم ذكره اسمه، لـ العربي الجديد"، إن "خطة علاج مرضى الأورام والأمراض المستعصية وتوفير الدواء التي تروج لها وزارة الصحة عبر الأجهزة الدعائية، تتجاهل أن المرضى يحتجون أمام المستشفيات، وأن الأطباء يصرخون في الخفاء، ويوجه بعضهم رسائل إلى البرلمان والمنظمات الحقوقية، للمطالبة بمواجهة حقيقية لأزمة تأخير قرارات علاج المحتاجين على نفقة الدولة، والقضاء على سوء إدارة منظومة العلاج المجاني، ومواجهة البيروقراطية في صرف الأدوية، وفتح باب المنافسة أمام استيراد الأدوية التي أصبحت عملية شاقة في ظل انخفاض قيمة الجنيه وشح الدولار".

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية