
في جزء من الدروس المستقاة من "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل 2023، اندفع سلاح الاستخبارات الإسرائيلي نحو تغييرات جذرية، تشمل وفقاً لتقرير أوردته "بلومبيرغ"، اليوم السبت، استخداماً متجدداً لبرنامج تجنيد باللغة العربية لطلاب المدارس الثانوية، وتعليم جميع جنود السلاح اللغة العربية والإلمام بالإسلام. وطبقاً للتقرير، تهدف التغييرات إلى تقليل الاعتماد على التكنولوجيا، وفي المقابل تشكيل فريق من الجواسيس والمحللين ذوي معرفة واسعة باللهجات المختلفة للغة العربية – مثل اليمنية، العراقية، واللهجة الفلسطينية المحلية في غزة – إلى جانب فهم عميق للعقائد والخطاب الإسلامي "المتطرف".
تقاطعاً مع ما سبق، ذكرت صحيفة "معاريف" أن كل قسم في المنظومة الأمنية الإسرائيلية يخضع لعملية مراجعة ذاتية منذ اندلاع الحرب، مشيرةً إلى أن الجدل حول المسؤولية واللوم لا يزال مستمراً، وخصوصاً داخل شعبة الاستخبارات التي تتحمّل جزءاً كبيراً من المسؤولية عن الإخفاق.
وفي الإطار، نقلت "بلومبيرغ" عن ضابط استخبارات إسرائيلي، اشترط عدم الكشف عن هويته، قوله إنه "كان لدى الشعبة سوء فهم جوهري لأيديولوجية حماس وخططها الفعلية". وبحسب التقرير، فإنه على الرغم من أن جهاز الاستخبارات كان على علم بخطة حركة حماس لاقتحام قواعد عسكرية ومستوطَنات قريبة من السياج، بل وشاهد مسلحين يتدرّبون علناً، إلا أن التقدير كان أن حماس "تحلم بسيناريو كهذا فحسب"؛ إذ إن محللي شعبة الاستخبارات استنتجوا أن "الحركة راضية بدورها حاكماً لقطاع غزة، مستفيدة من التبرعات الأجنبية، ومن دخول أعداد كبيرة من الفلسطينيين إلى إسرائيل بهدف العمل".
كل قسم في المنظومة الأمنية الإسرائيلية يخضع لعملية مراجعة ذاتية منذ اندلاع الحرب
وفي هذا الصدد، رأى العقيد في الاحتياط، ورئيس برنامج الدراسات الفلسطينية في مركز ديان التابع لجامعة تل أبيب، ميخائيل ميلشتاين، أنه "لو كان هناك المزيد من الإسرائيليين القادرين على قراءة صحف حماس والاستماع إلى إذاعتهم، لفهموا أنها غير مرتدعة، وكانت تبحث عن الجهاد".
من جهة ثانية، اعتبر ضابط الاستخبارات أن التركيز المتجدد لشعبة الاستخبارات على التدريب في اللغة العربية والمعرفة بالإسلام يُمثّل "تغييراً ثقافياً عميقاً" داخل الجهاز، وهدفه خلق ثقافة داخلية "تعيش وتتنفّس الطريقة التي يفكر بها عدوّنا".
مع ذلك، يعتقد ميلشتاين أن نجاح هذه الجهود منوط بتغييرات اجتماعية عميقة على مستوى المجتمع الإسرائيلي ككل. والسبب أن معظم الإسرائيليين يتعلمون اللغة الإنكليزية في المدارس، رغم أن هناك إمكانية لتوسيع تعليم اللغة العربية بشكل أكبر. وكثير من الإسرائيليين يحلمون بالانتقال للعيش في دول الغرب، وبالأساس في الدول الناطقة بالإنكليزية، والتحدي يكمن في إقناعهم بالتركيز أكثر على المنطقة – على ثقافاتها، ولغاتها، وتهديداتها – وأقل على الفرص العالمية. وبحسبه "أصبحت إسرائيل أكثر ازدهاراً حين رأت نفسها جزءاً من الغرب، لكنها تحتاج إلى البقاء في الشرق الأوسط".
لكن الأمر لم يكن على هذا النحو دائماً. ففي البدايات، استخدم عدد كبير من اليهود الذين هاجروا من الدول العربية إلى إسرائيل مهاراتهم في خدمة الاستخبارات، وفي مقدمتهم الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين الذي وصل إلى أعلى المستويات في حكومة سورية قبل أن يُقبض عليه ويُعدم في الستينيات. وبمرور الوقت انخفض عدد المتحدثين باللغة العربية باعتبارها لغة أماً. فالإسرائيليون الذين جاء أجدادهم من العراق وسورية واليمن لا يتحدثون العربية، ومليونان من المواطنين العرب في إسرائيل ليسوا خاضعين للخدمة العسكرية الإلزامية – كذلك فإن الغالبية العظمى منهم ترفض التطوّع في الجيش. وفقط جزء من الدروز الذين تفرض عليهم الخدمة العسكرية الإلزامية ينضمون إلى جهاز المخابرات، لكنهم يشكلون أقل من 2% من القوة العاملة، وفقاً للتقرير.
على خلفية ما تقدّم، أعادت الاستخبارات الإسرائيلية إحياء برنامج كانت قد أوقفته قبل ست سنوات، وذلك بهدف تشجيع طلاب الثانوية على تعلم اللغة العربية، وتوسيعه ليشمل عدّة لهجات، فالمشكلة لا تقتصر على غزّة فقط؛ إذ بحسب ما قاله ضابط الاستخبارات، فإن "المجندين العاملين في التنصت استصعبوا فهم ما يقوله الحوثيون، لأن معظمهم يخزن القات، ولذلك جنّد الجيش يهوداً كباراً في السن من أصول يمنية لمساعدتهم على الفهم".
وفقاً لـ"بلومبيرغ"، فإنه إلى جانب برنامج تعليم اللغة العربية، توجّه المخابرات أيضاً موارد إلى وحدة عسكرية أغلقت في السابق، مهمتها تحدي الاستنتاجات المركزية للمخابرات من خلال تعزيز التفكير غير التقليدي. عمل الوحدة هذه معروف بتعبير آرامي من التلمود – "إيفخا مستبرا" (أي العكس صحيح).
اعتماد أعمق على الاستخبارات البشرية
وفي السياق، لفت التقرير إلى أن المخابرات الإسرائيلية تنتقل إلى اعتماد أعمق على الاستخبارات البشرية – مثل زرع عملاء سريين في الميدان وبناء وحدة تحقيقات، بدلاً من الاعتماد على التكنولوجيا. واعتبر أن هذا التغيير يكسر نمط العقد الماضي الذي اعتمد على بيانات من صور الأقمار الاصطناعية والطائرات غير المأهولة، وهو يتسق كذلك مع تغيير آخر يظهر على الحدود البرية التي اعتمدت في السابق على المراقبة بواسطة الأسوار والحواجز المزودة بالحساسات، لتشهد منذ اندلاع الحرب نشر مزيد من القوات.
من جهته، اعتبر العقيد في الاحتياط، عوفر غوترمان، وهو باحث أول في معهد دراسة منهجية الاستخبارات في مركز التراث الاستخباراتي، وعمل في السابق ضابطاً في وحدة الأبحاث في "أمان" (شعبة الاستخبارات العسكرية) أن "النهج الجديد لن يتطلب فقط المزيد من الأشخاص، بل أشخاصاً أكثر يقظة لمجالات مختلفة. فقبل هجوم حماس، كان هناك تصور وطني بأن التهديدات الكبرى قد ولت عنا، باستثناء السلاح النووي الإيراني. والآن، بعدما ثبت أن ذلك غير دقيق، على إسرائيل أن تبني ثقافتها الاستخبارية من جديد".
فشل التصدي للهجوم لم يكن بسبب نقص المعرفة بالآيات في القرآن أو باللهجة العربية، بل لأن إسرائيل ترى جيرانها فقط من خلال عدسة العداء
وأضاف غوترمان أن "إسرائيل ممتازة في كشف الأسرار، مثل معرفة مكان اختباء قائد معين، لكنها ضلت طريقها في حل الألغاز، مثل ما الذي يخطط له ذلك القائد"، مشيراً إلى أن ذلك "يتطلب التزاماً عميقاً بالدراسات الإنسانية – الأدب، التاريخ والثقافة"، معبّراً عن قلقه "من أن الطلاب الإسرائيليين يزدرون الثقافات الغنية لجيرانهم".
على المقلب الآخر، رأى وزير الشؤون الاستراتيجية سابقاً، دان مريدور، الذي كتب بحثاً رائداً حول احتياجات أمن إسرائيل قبل عقدين، أن ثمة "استنتاجات خاطئة استُخلصت من هجوم حماس". وبحسبه "فشل التصدي للهجوم لم يكن بسبب نقص المعرفة بالآيات في القرآن أو باللهجة العربية، بل لأن إسرائيل ترى جيرانها فقط من خلال عدسة العداء.. لا نحتاج إلى المزيد من الاستخبارات، بل إلى المزيد من الحوار والمفاوضات".
