
لم تعد الأراضي الزراعية في الساحل السوري تُحرك مشاعر الانتماء لدى الشبان كما كانت تفعل مع آبائهم وأجدادهم. وخلال السنوات الأخيرة تحوّلت مساحات واسعة من الحقول الخصبة الممتدة على أطراف قرى اللاذقية وطرطوس (غرب) إلى أراضٍ مهملة باتت معروضة بعضها للبيع، في حين بقيت أخرى وسط الحشائش والنسيان.
يشكو المزارع الستيني علي مرهج الذي يعيش في ريف مدينة جبلة جنوبي اللاذقية، من ضعف قوته وإهمال أولاده للأرض التي عمل فيها وأكل من خيراتها سنوات، ويقول لـ"العربي الجديد": "أملك ثلاثة دونمات زرعتها بالحمضيات منذ سنوات طويلة، لكن أولادي اليوم لا يرغبون حتى في المرور بجانبها، بل عملاً في المدينة أو مشروعاً تجارياً يدر ربحاً سريعاً، وهم يصرون منذ سنوات على بيع الأرض. والآن بعدما ضعف جسدي لا أكاد أستطيع أن أعتني بها، ولا أستطيع بيعها لأنها جزء مني".
ويرى كثير من الشبان أن العمل في مجال التكنولوجيا أو المشاريع التجارية الصغيرة، مثل المقاهي أو المجمعات التجارية، أو حتى شغل وظائف حكومية أكثر جدوى من قضاء ساعات طويلة تحت الشمس لتحصيل عائد مادي ضعيف وغير مضمون.
ويقول حسان علي (25 سنة)، وهو من قرية بيت عانا بريف اللاذقية، الذي ترك قريته قبل أكثر من 9 سنوات ثم التحق بالجامعة واستقر في مدينة اللاذقية حيث يعمل على غرار إخوته الثلاثة الذين افتتحوا مشاريع تجارية مختلفة وتركوا أرضهم في القرية، لـ"العربي الجديد": "رغم ارتباطي العاطفي بقريتي أدرك أن الزراعة لم تعد تطعم خبزاً، كما أن أرباحها ضعيفة. لماذا أزرع وأنتظر شهوراً كي أبيع المحصول؟ وهو أمر غير مضمون أيضاً، في حين أستطيع أن أعمل على الإنترنت أو أفتح بسطة لبيع مشروبات ساخنة وأكسب يومياً؟".
ومن الإشارات المقلقة زيادة عدد إعلانات بيع الأراضي الزراعية، سواء على مواقع التواصل أو مباشرة في القرى. ويؤكد أصحاب مكاتب عقارية لـ"العربي الجديد" أن "هناك موجة غير مسبوقة من بيع الأراضي، خاصة من قبل ورثة لا يقيمون في المنطقة". ويقول أحمد بدور، وهو أحد وسطاء العقارات في مدينة اللاذقية: "تأتي معظم طلبات بيع الأراضي اليوم من شبان يريدون بيع حصصهم بهدف السفر أو تفادي صداع الزراعة. بات عزوفهم عن العمل الزراعي أكثر انتشاراً اليوم مع تغيّر نمط الحياة والتفكير والرغبة في جني عائدات مادية بطرق أسرع وأسهل، والنتيجة أن الأراضي الزراعية مهملة وغير منتجة".
وعلى غرار الزراعة ينطبق الواقع ذاته على العمل في تربية المواشي والدواجن. ورغم أن الطابع الريفي يغلب على منطقة الساحل السوري، لكن العمل في الزراعة تراجع كثيراً في السنوات الأخيرة.
ويعزو عبد الله شديد (48 سنة)، وهو من سكان ريف بانياس جنوبي محافظة طرطوس، الأمر إلى أسباب عدة، منها تغيّر طرق العيش، وتفضيل الشبان حياة المدينة على الريف، والنظرة الاجتماعية لمهنة الزراعة. ويقول لـ"العربي الجديد": "أعمل بمهنة الدواجن الصعبة منذ عشرين عاماً، أما أولادي فلم يتقبلوا فكرة مزاولتها رغم أن مردودها الاقتصادي جيد. فعلياً لا أعلم كم من الوقت سأبقى قادراً على العمل، وحين أتوقف سأبيع الأرض وأوزع أموالها على أولادي الذين تزوجوا ويملك كل منهم مشروعه الخاص ويعيشون خارج القرية".
والأكيد أن هذا التراجع في الزراعة ذات تأثيرات كبيرة ليس فقط على الاقتصاد المحلي، بل أيضاً على الأمن الغذائي والتوازن البيئي، فالإهمال الزراعي يؤدي إلى تآكل الغطاء النباتي، وزيادة الاعتماد على المنتجات المستوردة، ما يرفع أسعار السلع ويضعف الاكتفاء الذاتي.
ويقول المهندس الزراعي عمار حديد لـ"العربي الجديد": "نخسر أراضينا بأنفسنا، ليس لأننا لا نملكها، بل لأننا لم نعد نؤمن بقيمتها. التحدي الأكبر هو إعادة ربط الشباب بالأرض من خلال مشاريع مدعومة وحوافز حقيقية تقدم لهم مردوداً مالياً جيداً، وتغيّر فكرتهم عن الزراعة".
ويرى أن "الحلول ممكنة لكنها تحتاج إلى عمل ووقت، ومن بينها وضع خطة حكومية شاملة تحقق للمزارعين مردوداً جيداً من دون إغراق السوق بالمستوردات، وفتح باب التصدير، وإعداد خريجين أكاديميين مؤهلين في التخطيط الزراعي، لأن هذه المهنة لم تتطور في الساحل منذ عقود وحافظت على أساليب العمل نفسها". كما يشير إلى ضرورة الاهتمام بالإنتاج الحيواني المحلي وإزالة العوائق التي تواجهها.
وتعد الزراعة من الموارد الاقتصادية الأهم لسكان الساحل السوري إلى جانب الصيد البحري، وتشغّل آلاف الأسر في الريف، وتعتبر الحمضيات والأشجار المثمرة إلى جانب الزيتون والتبغ والخضار من أهم المحاصيل في المنطقة. وخلال السنوات الأخيرة تكبد مزارعو الساحل السوري خسائر مالية فادحة، خصوصاً في موسم الحمضيات بسبب انخفاض أسعارها، وصعوبة تصديرها بسبب عوائق سياسية، إلى جانب وجود فائض في الإنتاج.
