
في واحدة من أبرز الانتكاسات الديمقراطية في أميركا (الوسطى) اللاتينية، تواصل السلفادور (نحو 6 ملايين نسمة) بقيادة رئيسها الشاب نجيب أبو كيلة الانزلاق نحو نظام سلطوي مغلف بعباءة "التجديد"، ومدعوم بشعبية صاعدة لدى أقصى اليمين في الغرب والقارة. أبو كيلة، الذي انتُخب في 2019، أعاد صياغة الحكم: لا سيادة قانون، لا تداول سلميا للسلطة، ولا مؤسسات مستقلة. ومع التعديلات الدستورية التي أقرّتها الجمعية التشريعية، اليوم الجمعة، بإلغاء الحد الأقصى للفترات الرئاسية، وتمديد الولاية من 5 إلى 6 سنوات، وإلغاء جولة الإعادة، بدأ تمهيد الطريق لتُسلِّم البلاد طواعية لرجل واحد، ضمن قائمة دول الجنوب التسلطية، حيث ديمومة المتسلط تُسوّق بوصفها "ضرورة قومية"، وعن قصد تخلط مفاهيم بقاء الدولة ببقاء "الرجل القوي"، أي نظام الحكم.
جاءت التعديلات، التي صوّت لها 57 نائباً مقابل 3 فقط، تتويجاً لتحركات بدأها نجيب أبو كيلة منذ 2021، حين أقال بعض القضاة في المحكمة الدستورية وعيّن موالين له، ودفع المحكمة العليا لتفسير الدستور بما يسمح بإعادة ترشحه، رغم وضوح النصوص الدستورية. المعارضة وصفت ما يجري بـ"التقويض الصريح للديمقراطية"، لكن أبو كيلة يرد بلغة واحدة: "الأمن أولاً".
تسلطية بنسخة رقمية
يصفه أنصاره بـ"الرئيس الكول": شاب، كاريزمي، يتحدث بلهجة الشارع، يرتدي الكاجوال، ويدير الدولة من هاتفه عبر منصة إكس (تويتر سابقاً). لكنه يمارس سلطة مطلقة. أطلق "الحرب على العصابات"، فاعتُقل أكثر من 80 ألف شخص؛ كثيرون منهم دون محاكمات، واحتُجزوا في سجون ضخمة تُدار بعقلية الإذلال الجماعي، وسط انتقادات منظمات حقوق الإنسان الدولية عن التعذيب والإخفاءات القسرية.
انخفاض معدلات الجريمة بشكل غير مسبوق استخدمه نجيب أبو كيلة لتبرير قمعه وتوسيع سلطته. شعاراته بسيطة وفعّالة: "الأمن أهم من الحرية"، "لن ننتظر العدالة البطيئة"، "لن نُحكم من نخب فاسدة". وفي جزء من بروباغندا القوة، نشر أبو كيلة في فبراير/ شباط 2023 فيديو يُظهر نقل نحو ألفي سجين إلى "مركز احتجاز الإرهاب" بملابسهم الداخلية، منكّسي الرؤوس، ما أظهره "رئيسا قويا"، وبصيغة مسرحية ديستوبية، حقق ملايين المشاهدات.
اللافت أن هذه الممارسات لم تُقابل بإدانة تُذكر من العواصم الغربية، بل تحوّل أبو كيلة إلى ملهم لدوائر اليمين الشعبوي في الغرب. في غواتيمالا وهندوراس، جارتي السلفادور، ترتفع شعبية الرجل بما يقلق ساسة البلدين، وهو ما ينسحب على الإعجاب المتنامي بأبو كيلة في أنحاء الجنوب الأميركي أيضاً حتى بات البعض يطلق على ذلك مسمى "تيار البوكيليز"، أو ما يسمى بالإسبانية النموذج البوكيلي إلموديلو بكيلي el modelo Bukele.
من السلفادور إلى الغرب: صدى الشعبوية
الكاتب والمستشار السياسي السابق للحكومة الإيطالية جوليانو دا إمبولي، رأى في كتابه زمن المفترسين (2024) (Le temps des prédateurs) ، أن نجيب أبو كيلة لم يعد ظاهرة محلية، بل نموذج الحاكم الشعبوي في عصر ما بعد الحقيقة. "كل شيء عرض. لا سياسة، بل استعراض دائم"، يقول إمبولي. الخطر، كما يشير، أن التأثير بات معكوساً: الأفكار الديمقراطية لم تعد تُصدّر من بروكسل ونيويورك، بل تُستورد من الهامش. أبو كيلة و(الرئيس الأرجنتيني خافيير) ميلي، و(الرئيس الأميركي دونالد) ترامب، و(الرئيس البرازيلي السابق جايير) بولسونارو يقدمون نموذجاً هجيناً للحكم: خلق الفوضى وإدارتها. في أوروبا، يُنظر إلى تجربة أبو كيلة حلّاً لأزمات الجنوب الإيطالي و"الغيتوهات" الفرنسية وغيرها.
حتى اليمين الصهيوني-الديني في دولة الاحتلال الإسرائيلي أظهر إشارات إعجاب بأبو كيلة (الذي لم يبد أي تعاطف مع القضايا العربية وقضية فلسطين تحديداً)، لأنّ سياساته الأمنية وترويجه للعقاب الجماعي على أنه وسيلة ردع تتقاطع مع خطاب حكومة الاحتلال الإسرائيلي تجاه فلسطينيي غزة والضفة الغربية. وفي أميركا، أصبح رمزاً جمهورياً في قضايا الأمن والهجرة، حتى وُصف بـ"ترامب أميركا الوسطى"، لكن بنجاعة أكبر. فالسياسي لم يعد موظفاً في نظام دستوري، بل مسوّقاً عبقرياً يدير السلطة كما يُدار منتج في حملة إعلانات. كما قال مهندسو "كامبريدج أناليتيكا": "لبيع الكوكاكولا في السينما، ارفع درجة الحرارة". أبو كيلة، بدوره، يرفع درجة الغضب ويُشعل المشاعر الجماعية، فيزداد ولاء الجمهور.
المفترسون الجدد
دا إمبولي يسمّي هؤلاء بـ"المفترسين": من خارج الطبقة السياسية التقليدية وبراغماتيين يستخدمون التكنولوجيا والهيمنة العاطفية لتغيير السياسة. لا يهتمون بالدستور، بل يخلقون الفوضى ليبقوا في السلطة، ويقدمون "القوة" على أنها حلّ سحري. السياسة تتحول إلى عرض حي على المنصات. المواطن يُحفَّز، يُغضب، يُقهر، ويُستثمر عاطفياً. مشاهد إذلال المعتقلين أو "منشار" ميلي في الأرجنتين ليست انزلاقات، بل أدوات حكم. وهنا يكمن الخطر: ما يُجرب في بلدان صغيرة لا يبقى هناك. إذا نجح أبو كيلة في فرض "الاستقرار بالقوة"، فإن النموذج يُستنسخ في مراكز القرار الغربي تحت شعارات براقة، وبقدرة محكمة على توليد الفوضى وإدارتها.
نجيب أبو كيلة.. الفلسطيني "الكول"
صعود أبو كيلة يحمل قصة فريدة. وُلد عام 1981 في سان سلفادور، لعائلة من أصول فلسطينية من بيت لحم جنوبي الضفة. بدأ مع اليسار، ثم انفصل وأسّس حزبه "الأفكار الجديدة". قدّم نفسه وجها جديدا: لا خطب، بل تغريدات؛ لا مؤتمرات، بل فيديوهات. لكن هذا التجديد سرعان ما تحوّل إلى حكم سلطوي يرفض الانتقاد ويقمع الصحافة. في 2022، أعلن حالة الطوارئ، واعتقل الآلاف، وجعل من بيتكوين عملة رسمية.
في فبراير/ شباط 2024، شارك في مؤتمر المحافظين الأميركيين CPAC واستُقبل بوصفه بطلا. ترامب وصفه بـ"الملهم"، ودعاه إلى "تعليق القانون ليوم واحد". الصدمة لم تكن في الإعجاب الأميركي، بل في عجز الليبراليين عن تسميته باسمه: استبداد مغلف بشعبوية رقمية.
الخطر يتسلل
ما يُجرّب في بلد صغير يُستنسخ سريعاً. هذه هي القاعدة. أبو كيلة، مثل ميلي وترامب وبولسوونارو، لا يحكم بالمؤسسات بل بالمشاعر والصدمة. "المفترس" لا يحترم الفصل بين السلطات، بل يطحنها في ماكينة دعاية لا تتوقف. وإذا اعتقدت الديمقراطيات الغربية أنها محصنة، فإن نموذج أبو كيلة يثبت العكس: السلطة المطلقة لا تحتاج لانقلاب، بل لزعيم كاريزمي، منصة تواصل، وخوف من الجريمة. في السلفادور، كما في العالم، صار الخوف بوابة الاستبداد، والإعجاب بالديكتاتور "الفعّال" وقوداً لعودة الأنظمة الشمولية في وسط وجنوب أميركا اللاتينية، بحلّة كاجوال... و"كول".
