ما يحدث في غزة ليس انزلاقاً سياسياً ولا "ردّ فعل" على ما جرى في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بل انكشافٌ فجّ لـ"أبوكاليبتو" صهيوني، تتغذى فيه دولة الاحتلال على إبادة الآخر وتجريده من إنسانيته. كأننا أمام "حضارة" لا تعرف البقاء إلا عبر الدم والقتل والطرد والحرق. فيلم "أبوكاليبتو" الذي صوّره ميل غيبسون عن زوال حضارة المايا عبر طقوس القتل والمذابح، لم يكن خيالاً بعيداً عن واقع "مملكة إسرائيل" التي يحلم بتاجها إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش وغيرهما، منذ تربيتهما على فتاوى تُبيد ولا تميّز، تُحرق ولا تتردد، تُقصي القانون وتؤله "شعباً مختاراً" لا تطاوله قواعد البشر.
ما بعد السابع من أكتوبر لم يُنتج هذا الشر، بل حرّره من أقنعته القديمة. بن غفير ليس استثناءً، بل خلاصة. ففي مقابلة مع الصحافي يوسي غورفيتز (صيف 2004)، عبّر مبكراً عن رغبته في قتل الجميع وعن طموحه بترحيل كل الفلسطينيين، وصولاً إلى تسمية الشوارع والأحياء بأسماء الإرهابيين الإسرائيليين، تماماً كما يمجّد اليوم باروخ غولدشتاين، مرتكب مذبحة الحرم الإبراهيمي (1994). الأخطر من القصف هو إيمان عقائدي، يدرَّس في الكتب ويُفتى به علناً، بأن الفلسطيني "حيوان مفترس" لا يستحق شفقة، وأن قوانين الحرب الدولية ليست سوى "قوانين مسيحية" لا تلزم اليهود.
في سبتمبر/ أيلول 2004 نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت فتوى لحاخامات كبار أمثال دوف ليئور تدعو لقتل الفلسطينيين من دون تمييز. وفي كتاب الدين للصف الرابع، نقرأ:"ثم أضرم المشاعل ناراً وأطلقها على زروع الفلسطينيين... فأحرق الأكداس والزرع وكروم الزيتون"، أليس هذا تطبيقاً حرفياً في الضفة الغربية؟ هذا ليس انحرافاً عن الصهيونية، بل تجسيدها. فاشية معلنة، تُنتج أدوات الإبادة بلا حاجة إلى أعذار. لا يغيّر من جوهرها ارتداء ربطة عنق، أو التستر خلف بروباغندا الغضب من "الصورة المشوهة". أن نسمي هذا الشر بما هو عليه، ليس انفعالاً بل ضرورة أخلاقية وسياسية. نحن أمام منظومة قامت على نزع إنسانية الفلسطيني، وإنتاج جيش بلا قلب، وكيان بلا ضمير، ومجتمع تُخدَّر حواسه عبر أناشيد وأسفار التحريض.
مايك هاكابي، سفير الرئيس الأميركي دونالد ترامب الخلاصي في تل أبيب، ليس نشازاً عن معسكر إنجيلي ـ صهيوني بات يبتلع كل فظاعة، ويبرر تجويع الفلسطينيين وإبادتهم بـ"الحق التوراتي"، بينما تثور "إنسانيته" إن اقتبس وزير عربي آية قرآنية في خطابه. نحن أمام تجلٍ فجّ لعقيدة تربّي جيلاً يرى في القتل والتجويع انتصاراً للنور على "ظلام العرب". من لا يرى "الأبوكاليبتو" الصهيوني في غزة، لا يرى نفسه، ولا حجم التوحش الذي يُسقط كل أخلاقيات العصر الحديث.