
تتحرّكُ بين أفكارك كما يتحرّك العابر في غابةٍ لا خرائط لها، فكلّ خطوة تُضاء بالحدْس وحده، وكلّ انحناءة شجرة تحملُ ظلالاً لذكرياتٍ لا يشترك فيها أحد سواك. وحين تخرج من هذه الغابة المثقلة بتقلّباتك، وتحاول أن تتحدّث عن ذلك الطريق الذي مشيته في وحدتك، تفاجأ بأن مَن أمامك لا يفهم شيئاً. لا لأنك أخطأت التعبير، بل لأن المسافة التي قطعْتها كانت ذهنيةً ومتشابكةً بما لا يُرى، وهم ما زالوا في نقطة البدء، في الخارج، أو على حافّة الغابة.
ذلك الألم العابر الذي يمرّ بك ويترك في قلبك ندبةً غير مرئية، قد لا يحتاج إلى صيحة أو دمعة، بل إلى أحدٍ يعرف ما الذي يعنيه أن تنهض من سريرك وفي قلبك خواء يشبه بئراً جفّ ماؤها فجأة.
تمضي إلى عملك أو إلى حديثك المعتاد، وفي داخلك ضوضاء لا يسمعها أحد. وفي اللحظة التي تظنّ أنك وصلت إلى لحظة مكاشفة، تقرّر أن تقول وتشرح وتكشف قليلاً من ذلك الداخل المعتم، تصطدم بأن الكلمات عاجزة، أو أن الآخر عاجز عن استقبالها. لا يعرف المرء أيهما أسبق في الخيانة؛ اللغة أم المُستمِع.
أن تشرح ألماً لا يعرفه سواك، يشبه أن تصف مذاق الرماد لمن لم يحترق قط. لا ذنب له، صحيح. ليس عليه أن يشعر بما لم يعشه. لكنّ تلك الفجوة بين التجربة واللغة، وبين المعاناة والتوصيف، وبين الذكرى التي تحفر أخاديدها في القلب، والعبارة التي تحاول أن تحيطها، تبقى فجوةً مؤلمةً. ومن المؤلم أيضاً أن تتكرّر في كلّ محاولة جديدة للبوح، هذه الخيبة المتكرّرة في الفهم. خيبة أن ترى في أعين من تحبّهم عجزاً أو لامبالاةً أو مجرّد نظرة شفقة سطحية، لا تلامس شيئاً ممّا أردتَ قوله.
ليس كلّ ما يقال يُفهم، وليس كلّ ما يُفهم يُشعر. وهذا تحديداً ما يصنع العزلة الأعمق. ليس الانزواء عن الناس، ولا البعد الجسدي، بل تلك العزلة التي تُبنى من تراكُم اللحظات التي شعرت فيها أنك تقول ولا يُسمَع، تُفصح ولا يُفهَم، تُنادي ولا يُستجاب لك. عندها يبدأ المرء في التراجع وكبت التجربة وحراسة داخله بصمتٍ ثقيل. لا لأنه لا يريد أن يشارك، بل لأنه جرّب المشاركة ولم تثمر سوى الخذلان.
وقد يحدُث أحياناً أن يتلقّى أحدهم كلامك ويهز رأسه موافقاً، ويتفاعل بنبرة تبدو حنونةً، وتظنّ لوهلة أنه فهم. ولكنّك بعد لحظة تدرك أن ما فهمه لا علاقة له بما أردت قوله. هو فسّر على طريقته، أسقط على تجربته، سحب عبارتك إلى ساحته الخاصّة، ولم يسرْ معك ولو خطوة واحدة في الطريق الذي خرجتَ منه للتو وأردتَ أن تصف تضاريسه. وهذه خيبة أخرى، أشدُّ تعقيداً. لأنك لن تستطيع بعد الآن أن تفرّق بين من فهم فعلاً، ومن تظاهر بذلك بدافع المجاملة أو بدافع عجزه عن الاعتراف بعدم الفهم.
لا يحتاج المرء دوماً إلى من ينصحه أو يرشده إلى الطريق، بل إلى من يصدّق أن ما يقوله حقيقي، أن ما يشعر به ليس وهماً، ولا مبالغةً، ولا دراما مجّانية. أن حزنه حقيقي، وضيقه مبرّر، وإن بدت أسبابه للآخرين سخيفةً أو تافهةً. في مرّات كثيرة، ما يفتك بالبشر ليس الفقد أو الصدمة أو الخذلان، بل محاولة تبرير شعورهم لأنفسهم كلّما تجاهله الآخرون أو قلّلوا من شأنه. ما يرهقنا هو اضطرارنا للدفاع عن وجعنا، عن غضبنا، عن ذلك التقلّب الذي لا يمكن تعليبه في عبارات متماسكة.
ليس من حقّ أحد أن يحاكم شعورك بمعايير منطقه أو تجربته. فالتجارب لا تتكرّر، ولا تُنسخ، ولا يمكن قياسها بوحدات ثابتة. ما يحطّمك قد لا يُحرّك شَعر أحدهم، وما يهزّ كيانه قد يمرّ عليك دون أثر. ولذلك، لا جدوى من المقارنة، ولا من التقييم، ولا من الوعظ. كلّ ما يحتاجه المرء في لحظة الانكسار هو مَن يقول له: أفهمك، حتى لو لم أجرّب ما مررت به. أشعر بك، حتى لو لم أعش تلك التفاصيل. معك، من دون الحاجة إلى شرح.
هذه الفجوة بين التجربة والكلمات ستبقى على الأرجح، ما دام المرء يتحدّث ويكتب ويحاول أن يقول. لكنّها فجوة يمكن أن نقلّصها قليلاً، لا بالشرح، بل بالتعاطف. ربما لهذا السبب، تبقى بعض القصائد والرسائل والاعترافات حبيسة الأدراج، لا لأنها بلا لغة، بل لأنها أكبر من اللغة.
