
لا يفوّت الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مناسبة دون الترويج لرسومه الجمركية التي فرضها عالمياً فأصبحت الأعلى في التاريخ الأميركي منذ عام 1930، حين مرر الكونغرس في ظل الكساد العالمي الكبير قانون سمووت-هاولي، الذي رفع بعض الرسوم إلى 60%. في وعود الرئيس وأنصار سياسته، ستتبدى الرسوم الجمركية في صورة أموال تساهم في خفض الضرائب أو حتى مدفوعات نقدية للمواطنين، كذلك فإنها ستؤدي إلى إحياء الصناعات الأميركية وإعادة الروح إلى "حزام المدن الصدئة" بإجبار الشركات التجارية على نقل مصانع إنتاجها إلى الولايات المتحدة لتجنب "تسونامي" التعريفات، فهل تعكس تلك المواقف حقيقة الرسوم ومن يتحمل فاتورتها؟
تقول مجلة "إيكونوميست" البريطانية إن معظم الاقتصاديين من ذوي الخبرة، يرون أن الأميركيين العاديين هم من سيدفعون قيمة كل أو بعض تلك الرسوم، لأن الأسعار في المتاجر سترتفع. أما ترامب ودائرته المقربة، فيصرّون بلا مبالاة على أن بقية العالم ستتحمل العبء من خلال خفض أسعار البيع لديهم. لكن لا توجد حتى الآن أدلة تدعم رواية الرئيس ومؤيديه.
كذلك تُظهر الدراسات والأبحاث الاقتصادية أنه عندما تفرض دولة رسوماً جمركية على وارداتها، فغالباً ما يحتفظ المورّدون الأجانب بأسعارهم كما هي تقريباً، لتضاف إليها الرسوم الجمركية الجديدة وتمرر الفاتورة إلى المستهلك. هذا ما حدث تماماً في فترة إدارة ترامب الأولى، حين فرض رسوماً على الصين وغيرها. ووجدت دراسة من عام 2019 أن الرسوم مُررت بالكامل إلى الأسعار المحلية للسلع المستوردة.
وتكشف "إيكونوميست" عن أن بعض الشركات الأجنبية تتخذ موقفاً مشابهاً في الرد على الرسوم الجديدة التي فرضها ترامب أخيراً. ففي إبريل، زادت "فيراري" حوالى 10% على أسعار سياراتها. وأعلنت شركة "إينيوس" البريطانية أنها سترفع أسعار مركبتها "غرينادير" المخصصة للطرق الوعرة. أما "كانون" اليابانية لصناعة الكاميرات، فقد حذّرت الوكلاء من ضرورة الاستعداد لزيادات في الأسعار.
كما أعلنت عملاق الأحذية الرياضية الألمانية "اديداس" يوم الأربعاء انها بصدد زيادة أسعار منتجاتها للمستهلكين الأمريكيين بعدما ارتفع نفقات التصنيع عليها بـ 200 مليون دولار بسبب الرسوم الجمركية الأميركية.
وتنقل وكالة أنباء أسوشييتد برس عن تحليل اقتصادي صدر الثلاثاء أن رسوم ترامب ستؤدي إلى ارتفاع نفقات المصانع بنسبة تراوح بين 2% و4.5% تقريباً. ويقول التحليل الصادر عن مركز واشنطن للنمو العادل إن "العديد من الشركات ستتعرض لضائقة مالية"، مضيفاً أن هذه التغييرات التي تبدو طفيفة في المصانع ذات هوامش الربح الضئيلة "قد تؤدي إلى ثبات الأجور، إن لم يكن إلى تسريح العمال وإغلاق المصانع" إذا أصبحت التكاليف غير محتملة.
النمط العام لا يوحي بأن تداعيات الرسوم قد انعكست أو انحسرت كاملة في السوق الأميركية. فقراءة معدل التضخم لشهر يونيو مثلاً، أشارت إلى ارتفاع أسعار المستهلك الأساسية (باستثناء الغذاء والطاقة) بنسبة 0.2% مقارنة بالشهر السابق، وهو أقل من التقدير المتوقع البالغ 0.3%. ووجد بعض المحللين أدلة على زيادات ناتجة من الرسوم الجمركية في قطع غيار السيارات على سبيل المثال. رغم ذلك، يتبنى مجلس الاحتياط الفيدرالي موقفا حذراً منذ شهور تجاه خفض أسعار الفائدة، وهو الأمر الذي يلحّ عليه الرئيس الأميركي كثيراً، تحسباً من ارتدادات الرسوم الجمركية في صورة مزيد من التضخم محلياً. ومن المستبعد أن يخفض المجلس معدلات الفائدة بربع نقطة عن مستواها الحالي 4.3% في مايو، مفضلاً إرجاء الأمر إلى سبتمبر، أملاً في أن تصبح الصورة أكثر وضوحاً.
من يدفع الثمن؟
ويكشف تحليل لوكالة بلومبيرغ عن أن المناخ العام في قطاع الأعمال الأميركي لا يزال متسماً بالتوجس رغم التحسن الذي يسجله أداء الأسواق المالية. وتقول الوكالة إن "الرسوم الجمركية بدأت بالفعل تؤثر سلباً في أرباح عمالقة الأعمال في الولايات المتحدة مثل جنرال موتورز وداو إنك وتسلا. وعلى الرغم من أنها لم تتسبب حتى الآن في صدمة تضخمية كبيرة، فإن المستهلكين الأميركيين، المحرك الرئيسي للاقتصاد، ما زالوا صامدين، وإن كانوا يُظهرون بعض علامات الضغط".
الأمر نفسه تؤكده "مؤسسة جي بي مورغان" الأميركية في تحليل حديث لها بأن الرسوم الجمركية لا تزال عاملاً مقلقاً في ما يتعلق بالتضخم، رغم ذلك تشير إلى أن الشركات الأميركية قادرة في الوقت الراهن على استيعاب جزء من التكلفة بدلاً من تحميلها كاملة على كاهل المستهلك. وحسب "جي بي مورغان" فإن المستهلكين الأميركيين، والشركات الأميركية، والمصدرين الأجانب جميعهم يساهمون في تحمل تكاليف الرسوم الجمركية. وتقول المؤسسة: "تقديراتنا تشير إلى أن المستهلكين الأميركيين يدفعون نحو ثلث الرسوم حتى الآن، بينما يتقاسم المصدّرون الأجانب والشركات الأميركية نسبة الـ 66% المتبقية، وذلك استناداً إلى تحليلنا لأسعار السلع وإيرادات الرسوم حتى شهر يونيو".
وتشكك دوائر كثيرة في شرعية الاتفاقات التجارية التي يبرمها ترامب بمصافحة أو تصريح رئاسي دون العودة إلى الكونغرس، لكن ما يزيد الشكوك بالنسبة إلى الاقتصاد، سعي هذه الإعلانات للأرقام الضخمة التي يبدو أنها مصممة عمداً لإبهار أنصار ترامب والداخل الأميركي دون وجود حقيقي لها. (على سبيل المثال، إعلان تعهد اليابان باستثمار 550 مليار دولار في الاقتصاد الأميركي، وتعهد الاتحاد الأوروبي بـ 600 مليار، لا يوجد ما يثبت ذلك).
ورغم إلحاح إدارة ترامب على تصوير الاتفاقات التجارية التي توصلت إليها مع الشركاء التجاريين بالنصر المطلق (الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي نموذجاً)، فإن خبراء كثيرين يرون صعوبة في استمرارية نجاح ذلك النموذج القائم على فرض الإرادة لا التفاوض.
وترى صحيفة "وول ستريت جورنال" أن أساس الاتفاقات حتى الآن هو العقلية "الترامبية" التي تراهن على أن خسائر الآخرين ستكون أكبر من خسائر الولايات المتحدة في حال اندلاع حرب تجارية. هكذا فضل الشركاء التجاريون من الاتحاد الأوروبي وحتى اليابان وكوريا الجنوبية، ومن المتوقع أن تلحق بالركب كندا والمكسيك، فضلوا تجنب الحرب التجارية مع الاقتصاد الأكبر عالمياً، لكن ذلك لا يعني أن "الترامبية" قد حققت السلام التجاري العالمي.
