
وسط غبار الشاحنات المنطلقة بسرعتها القصوى في وسائل التواصل الاجتماعي، وأزيز الطائرات التي تشارك في استعراضات المساعدات الإنسانية المتجهة إلى غزّة، ثمّة خطر مستطير يختبئ في سيناريوهات تتسرّب عبر الإعلام الصهيوني. أولها (وأخطرها) إعلان هيئة البثّ الصهيونية الرسمية، نقلاً عن بيان لجيش الاحتلال، أنه وافق، بتوجيهٍ من المستوى السياسي (الحكومة)، على مبادرة الإمارات لربط خطّ مياه من مصر إلى داخل قطاع غزّة.
في التفاصيل وبحسب البيان، سيصل الخطّ إلى منطقة المواصي الساحلية، التي تمتدّ من وسط القطاع إلى جنوبه، ومن المتوقّع أن يخدم نحو 600 ألف فلسطيني من سكّان المنطقة، وأن مندوبين إماراتيين بدأوا اليوم إدخال المعدّات الخاصّة بالمشروع، بطريقة خاضعة للرقابة وبعد فحص أمني دقيق، عبر معبر كرم أبو سالم (جنوب القطاع) وتبدأ أعمال إنشاء الخطّ خلال الأيام القليلة المقبلة، وتستمرّ أسابيع.
وكانت وكالة الأنباء الإماراتية الرسمية (وام) قد أعلنت، في 15 يوليو/تموز الجاري، عبر عملية "الفارس الشهم 3"، بدء تنفيذ مشروع إنساني لإمداد المياه المحلّاة من الجانب المصري إلى جنوب قطاع غزّة. وأن المشروع يتضمّن خطّاً ناقلاً جديداً يُعدّ الأكبر من نوعه، ويمتدّ بقطر 315 ملم وطول 6.7 كيلومترات، يربط بين محطّة تحلية المياه التي أنشأتها الإمارات في الجانب المصري، ومنطقة النزوح الواقعة بين محافظتي خانيونس ورفح.
في الأثناء، بل في اللحظة ذاتها، تعلن إسرائيل خطّةً لضم مناطق من قطاع غزّة، تبدأ من الشمال، ثمّ تتوسّع في كامل مساحة القطاع، فتنقل صحيفة هآرتس عن مسؤولين أن بنيامين نتنياهو سيعرض على المجلس الوزاري المصغّر (الكابينت) خطّةً لضم مناطق بقطاع غزّة، في مسعى لإبقاء وزير المالية اليميني (المتطرّف) بتسلئيل سموتريتش في الحكومة. ووفقاً للصحيفة، حصلت الخطّة على ضوء أخضر من إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وأن وزير الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر عرضها على وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، وحظيت بدعم البيت الأبيض.
تهدف الخطّة التي يمكن تسميتها "مشروع سموتريتش" إلى زراعة غزّة بالمستوطنات والمستوطنين بعد إزاحة الشعب الفلسطيني، إمّا بتهجيرهم خارجها، أو بحبسهم فيما عرفت بـ"مدينة الخيام" في جنوب القطاع، وبالتحديد عند المناطق التي يشملها مشروع خطّ المياه الإماراتي .
لا تحتاج خطورة ما يجري التخطيط له على الشعب الفلسطيني، وقضيته، أدلة، لكن هذه الإنسانية الإماراتية الإسرائيلية المفرطة تحمل خطورةً أكبر على مصر ومياهها. خطّ مياه إماراتي من مصر إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، أليس ذلك هو حلم الصهاينة الأوائل، منذ ما قبل إنشاء الكيان وحتى الطبعة الأولى من الشرق الأوسط الجديد، كما رسمها وصاغها شمعون بيريس في تسعينيات القرن الماضي؟
سيقال إن المشروع يعتمد على تحلية مياه البحر، ونقلها من مصر إلى غزّة، التي تخطّط إسرائيل لإعادة احتلالها بالكامل، فإذا كان الأمر يعتمد على تحلية مياه البحر، فلماذا لا يذهب "الفارس الإماراتي الشهم" إلى قطاع غزّة مباشرةً وينفّذ مشروعه الإنساني من مياه بحر غزّة، مع الوضع في الاعتبار أن صلب المشروع المطروح "نقل المياه" من مصر إلى غزّة، فما الذي يضمن أن يقتصر الأمر على المياه المحلّاة فقط، ثمّ ما سرّ هذه الحفاوة الإسرائيلية بالفكرة وتبني جيش الاحتلال لها؟
هذه الأسئلة وغيرها ينبغي أن تكون الشغل الشاغل للشعب المصري، الذي يذرف الدمع على ما يدور في ملفّ مياه النيل من جهة إثيوبيا، والذي كان اسم الكيان الصهيوني يتردّد فيه عند استعراض الحلول المقترحة للنزاع على الحصص والكمّيات، وفي ذلك تعدّدت التحذيرات في مقالات ودراسات وندوات، من سيناريوهات شرّيرة، يكون المشهد الأخير فيها عبور النيل إلى الكيان الصهيوني، استجابةً لمشاريع صهيونية قديمة ترجع إلى ما قبل إنشاء الكيان الصهيوني في أرض فلسطين، ومن ذلك ما تناوله نقيب نقباء الصحافيين المصريين، الراحل كامل زهيري، في كتابه "النيل في خطر"، إذ يعود بالحكاية إلى العام 1903، ومشروع اتفاقية توطين اليهود في سيناء 99 عاماً، ويورد نصّ تقرير البعثة الصهيونية التي زارت سيناء أيام الاحتلال البريطاني واقترحت تحويل مياه النيل تحت قناة السويس، وحقيقة الاتصالات السرّية بين المليونير الصهيوني جاكوب روتشيلد وجوزيف تشمبرلين وتيودور هرتزل، وبين اللورد كرومر وبطرس باشا غالي.
في وثائقي مهم عرضته "بي بي سي" في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، أظهرت وثائق بريطانية أن إسرائيل وضعت خطّةً لنقل مياه النهر إلى قطاع غزّة قبل 35 عاماً، وفي 1987 أرسلت وزارة الخارجية البريطانية الدبلوماسي غريك شابلاند، ممثّلها في المباحثات المتعدّدة الأطراف بشأن المياه في عملية السلام، إلى كلّية الدراسات الشرقية والأفريقية (سواس) في جامعة لندن للتعمّق في دراسة الملفّ.
في مايو/ أيار عام 1988، نظم شابلاند ندوةً مغلقةً لبحث وضع المياه في الشرق الأوسط. وكُشف خلالها (صراحة للمرّة الأولى) خططاً إسرائيلية لحلّ مشكلة المياه، سواء في أراضيها أم في الضفة الغربية وقطاع غزّة.
في هذا السياق، تحدّثت الخطّة الإسرائيلية عن مياه النيل خياراً لحلّ مشكلة غزّة المائية، وتخفيف العبء عن شبكة المياه الإسرائيلية. وقالت "بسبب المشكلات الهيدرولكية الحادّة في غزّة، سوف يتم العثور على وسيلة لتوفير المياه من مصادر خارج قاعدة موار المياه الإسرائيلية، مثل نهر النيل من سيناء، أو تحلية مياه البحر"، وتتضمّن الخطّة ضرورة إبرام "معاهدة إقليمية شاملة تدعمها الدول المجاورة والقوى العظمى".
ليست مصادفةً أن يلتفت دونالد ترامب إلى ملفّ مياه النيل فجأةً في اللحظة التي يُعلِن فيها فكرة "مدينة الخيام" في جنوب قطاع غزّة، ثمّ يدخل "الفارس الشهم" القادم من الإمارات بمشروعه الذي احتضنه الاحتلال الصهيوني بكلّ الترحاب.
