مشاريع لأرشفة الفن السوداني.. شحّ البيانات وضآلة التمويل
عربي
منذ 10 ساعات
مشاركة

مع اختفاء أعمال لعدد من روّاد الفن السوداني وتسرّبها إلى السوق السوداء منذ بدء الحرب قبل أكثر من عامين، يتكرّس عجز المؤسسات الثقافية الرسمية عن جمع هذا التراث أو حتى إدراك قيمته، ويصبح الحديث عن الأرشيف ملحّاً كحالة وجودية أكثر منه تقنية، أو مجرد حديث عن وثائق وأعمال فنية مخزنة.

عند تتبع مسار التوثيق الفني من الاستقلال وحتى اليوم، يمكن رصد فترات من الاهتمام المؤسسي تعقبها عقود من الإهمال. وتكمن المفارقة بأن الأرشيفات الاستعمارية في أوروبا تحتفظ بسجلات فنية عن السودان أكثر مما تحتفظ به مؤسساته الوطنية، ما يطرح أسئلة حول علاقة الأرشيف بالفن: لماذا يستمر السودانيون في التنازل عن ذاكرتهم الجمالية؟ وكيف يغدو الآخرون حراساً لتراثهم؟ 

في السنوات الأخيرة، ظهرت محاولات فردية وجماعية لتعويض هذا الغياب المؤسسي. فنانون، باحثون، هواة، حاولوا بجهودهم الشخصية إنقاذ ما يمكن إنقاذه. بعضهم قام برقمنة أعمال قديمة، وآخرون جمعوا شهادات فنانين كبار قبل رحيلهم، بينما حاول غيرهم توثيق الحركات الفنية غير الرسمية التي ازدهرت في زوايا الخرطوم وأحيائها الشعبية. تبقى هذه المحاولات غير كافية وغير منهجية، فالتحدي الأكبر الذي يواجه الأرشيف الفني السوداني اليوم هو تحدي "السياق". كيف يؤرشف فن ناشئ من رحم الأزمات في أرشيف يعاني أزمة بنيوية؟ وكيف تُحفظ أعمال تتحدث عن الهشاشة بواسطة أدوات هشة؟ 

كما أضافت الحرب الأخيرة طبقات جديدة من التعقيد، مع تدمير المؤسسات الثقافية وتشتت الفنانين، ما جعل الأرشيف نفسه مشتتاً جغرافياً أكثر من أي وقت مضى، فبعضه في المنفى، أو في الخرطوم المدمرة، وقسم كبير منه فُقد إلى الأبد تحت الأنقاض.

تتنوع الأرشيفات السودانية بين المؤسسات الأكاديمية الرصينة، مثل أرشيف السودان في جامعة درم البريطانية الذي يحفظ وثائق الفترة الاستعمارية، وجمعية البحوث الأثرية السودانية المتخصصة في توثيق الآثار والحفريات، كما ظهرت في السنوات الأخيرة مبادرات رقمية طموحة، مثل "ذاكرة السودان" و"الأرشيف المفتوح للسودان"، اللذين يسعيان إلى حفظ التراث في صيغة رقمية وتسهيل الوصول إليه عالمياً. ولا ننسى الأرشيفات المتخصصة، كأرشيف شرائط السودان الذي ينقذ التراث الموسيقي من الاندثار، وأرشيف التصوير الفوتوغرافي الذي يوثق التفاصيل الحميمية للحياة اليومية عبر العقود.

أصبح الأرشيف مشتتاً جغرافياً كما فُقد قسم كبير منه

لكن هذه الجهود تواجه عقبات جسيمة تهدد استمراريتها، فأزمة التمويل وضعف البنية التحتية تحد من قدرة المؤسسات الأرشيفية على أداء دورها، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة. كما أن التحديات التقنية المتعلقة بالحفظ الرقمي وترميم المواد القديمة تتطلب خبرات ومعدات قد لا تكون متاحة محلياً. والأخطر من ذلك كله ما تتعرض له بعض الأرشيفات من تهديدات مباشرة بسبب النزاعات المسلحة والتقلبات السياسية، حيث يمكن أن تختفي وثائق بأكملها في لحظات عنف أو إهمال.

ونجحت بعض المشاريع الأرشيفية في تقديم نماذج ملهمة، فمشروع "ذاكرة السودان" مثلاً استطاع رقمنة آلاف الوثائق والمخطوطات النادرة وجعلها في متناول الجمهور العالمي، بينما أعاد "أرشيف شرائط السودان" إحياء تراث موسيقي كاد يندثر، وهو ما يثبت أن الحلول ممكنة عندما تجتمع الإرادة المحلية مع الدعم الدولي.

في زحمة العالم الرقمي المتسارع، حيث تغرق الملايين من الصور واللحظات في بحور النسيان كل يوم، ينهض موقع "أرشيف السودان للفن التشكيلي" حارساً للذاكرة البصرية، وهو مبادرة رقمية تسعى إلى الحفاظ على التراث الفني ما بين عاميْ 1975 و2025، وتركّز مرحلته الأولى على توثيق الفنون البصرية من الرسم والتصوير الفوتوغرافي والنحت والطباعة وإتاحتها للباحثين وعموم الجمهور، عبر أرشفة سير الفنانين وأعمالهم والإصدارات حول الفن السوداني، وكذلك مساحات العرض والغاليريهات في البلاد، بدءاً من لوحات الرواد الذين أسسوا لمدارس فنية، إلى تجارب الشباب التي لا تزال تبحث عن مكانة لها،.

ويجمع تصميم الموقع بين البساطة في العرض والعمق في طرح المحتوى المكتوب باللغتين العربية والإنكليزية. لكن المشروع يواجه تحديات جسيمة تبدأ من شح التمويل، إذ يعتمد بالأساس على جهود متطوعين وتبرعات قد لا تكفي للحفاظ على هذا الكنز الثقافي، كما أن العديد من الأعمال الفنية المهمة ما زالت خارج نطاق التوثيق، إما لأنها بحوزة أفراد أو لأنها غادرت البلاد خلال فترات الاضطراب، بالإضافة إلى التحدي التقني الدائم المتمثل في ضرورة تحديث أنظمة الحفظ الرقمية.

 

 

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية