الجريمة حقّاً سيادياً
عربي
منذ أسبوع
مشاركة

لم يولَد قرار محكمة التمييز في فرنسا إلغاء مذكّرة التوقيف بحقّ بشّار الأسد من فراغ. لم يكن تأويلاً قانونياً بارداً، وإنما لحظة انكشاف لآليات العدالة في صورتها الأخيرة. النظام القضائي الفرنسي، كما تجلّى في هذا القرار، لا ينشغل بإنتاج الحقيقة، بقدر ما يحدّد بدقّة المسافة المريحة بين السياسة والمساءلة. لم تنبثق مذكّرة التوقيف، الصادرة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، من انفعال أو ضغط رأي عام، بل بُنيت على شكاوى موثّقة، شهادات ناجين، تقارير أممية، وصور دامغة من الغوطة وخان العسل. مع ذلك، لم يُطرح النقاش حول جوهر الملفّ. اختُصر الجدل بسؤال تقني: هل كان الأسد رئيساً لحظة وقوع الجريمة؟ هذا السؤال وحده حسم الملفّ. لم يصدُر من المحكمة ما ينفي الجريمة، ولم يُطرح أيُّ دفاع عن الأسد. ما حدث هو انضباط صارم لمبدأ الحصانة، ليس من باب احترام القانون، بل نتيجة الانتماء إلى بنيةٍ سياسيةٍ تحمي رموزها من الانكسار. في هذا السياق، فائض الأدلة لا يفتح باب العدالة، بل يربك النظام ويهدّد استقراره.
لا يبتعد ما جرى في باريس عن ما يجري يومياً في محاكم العالم بخصوص فلسطين وغزّة تحديداً. في مجزرة تُبثّ على الهواء، لا تُطلب مذكّرات توقيف، ولا تُطرح دعاوى قضائية. الجريمة هنا لا تُخفى على الرغم من اعتراف منفّذيها بفعلتهم يومياً، إنما تُعاد صياغتها في الغرب الإنساني ضمن جمل محسوبة: "ردٌّ على تهديد"، "بيئة قتالية معقدة"، "نزاع غير متماثل". المدني لا يُقتل، يُقال إنه وُجد في المكان الخطأ. الطفل لا يُستهدف، يُدمج ضمن هامش خطأ تقني. الضحية تُفكّك من اسمها وعائلتها، وتُعاد كتابتها رقماً في نشرة. العدالة لم تعد إطاراً قضائياً، إنما بنية رمزية لإدارة الذاكرة وتأجيل الفعل. تتحوّل هندسةً لغوية، تُبقي على شكلها الخارجي من دون أن تُمكّن أحداً من استخدامها. لا حاجة إلى الإنكار أو التبرير، فوجود خطابٍ موازٍ يكفي لإفراغ الفعل من مضمونه. العدالة تُنقل إلى الأرشيف، تُترك في تقارير لا تُقرأ، تتحوّل ممارسةً شكليةً تُنجز كي لا يتحقّق منها شيء.
لم تتحرّك المحكمة الفرنسية بموجب القانون وحده، إنما امتثلت لمقتضيات البنية التي لا تحتمل فتح هذا الباب. لم تُعنَ بأن الأسد لا يشغل منصباً حالياً. لم تبحث في تبدّل السلطة. اكتفت بتثبيت موقعه السابق. هذا التثبيت وحده يكفي لغلق الملفّ. المساءلة توقّفت عند الحافة التي تليها العدوى. ليس فتح ملفّ الأسد نهاية القضية، بل بدايتها. قد يتبعها قادة آخرون، جنرالات، حكومات. لهذا لم يُطرح السؤال عن الفعل، بل عن صلاحية الاتهام. من يحقّ وصفه بالمجرم؟ من يمكن إخراجه من شبكة الحماية الرمزية؟ النصوص لا تحسم هذه الإجابة. الذي يحسمها هو ما إذا كان الاتهام سيهزّ استقرار النموذج.
الضحايا لا يُخفَون، بهدوء يُسحبون من اللغة. لا يُمحى أثرهم، بقدر ما يُعاد تشكيله ليغدو متحفيّاً غير مؤذٍ لسائح الحقيقة. المذكّرة لم تسقط لأنها واهية، بل لأنها فائضة. ولهذا تحديداً فإن وجودها يربك التوازن.
لا يفتقر العالم إلى أدوات المحاسبة، ولا يعاني من غياب التشريعات، ولا من قلّة الوثائق. المعضلة تكمن في غياب الرغبة. العدالة لا تُصنع من الوقائع فقط، بل من استعداد حقيقي لخرق البنية حين تصبح هي الحصن الأخير لمن ارتكبوا الجرائم. المجاعة في غزّة، والسلاح الكيميائي في سورية، لم يكونا من قبيل المصادفة. هذه جرائم لا ينفّذها أفراد، بل تُخطّط داخل مراكز سلطة. المحكمة الفرنسية حين امتنعت عن محاكمة من ارتكب جريمة وهو في موقع القرار، رسّخت المعادلة التي تحكم أكثر الجرائم فظاعة: لا محاكمة حين يكون الجاني في موقع الحكم. الفشل هنا ليس في تنفيذ العدالة، بل في عدم السعي إليها، والمصلحة فيها أصلاً.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية