تتشارك المجتمعات، لا سيّما تلك المتجذّرة في منظومة قيم وتقاليد متأصّلة، في جدلية معقدة بين ضرورة الانتماء الجماعي، وصعود تيار فردي منحرف يمجّد "التحرّر الشخصي" بلا حدود، فبينما يُمثل الانضمام إلى المجتمع تجسيداً للمساهمة في صياغة الهوية الثقافية والاجتماعية، تظهر اليوم أفعال فردية تحاول التخلص من كل قيد، بما في ذلك القيود الأخلاقية والقيمية والاجتماعية والقانونية، وغالباً ما يصار إلى اعتبار هذه الأفعال الخارجة عن المألوف عادية، في محاولة لتبريرها، رغم كونها مُهدِرة لكرامة الآخرين.
لا يختلف عاقلان على أن الاستقلالية الفردية حق أساسي لا جدال فيه، غير أن الخطر يكمن في تحويل هذا الحق أداةً تُشهر في وجه المجتمع كلما اشتد الخناق بالضوابط الأخلاقية، أو تعارضت الأعراف مع الميول الفردية العابرة. يتجاوز الأمر مجرد الرفض الخاص، ليصل إلى حد السخرية والاستخفاف بمَن يتمسكون بالقيم، كأنّ الالتزام بها عار، بينما يصور الخروج على المألوف إنجازاً فردياً يستحق الإشادة والثناء، في محاولة لشرعنة سلوكيات شاذة تُقلّل من شأن الآخرين وتتجاوز الحدود المجتمعية والقانونية.
وتتجلى التناقضات السافرة في أن أولئك الذين ينادون بتسامح المجتمع مع تصرفاتهم، لا يبدون أي استعداد لفهم حساسية النسيج الاجتماعي أو احترام مشاعر الآخرين. يطالبون بالاعتراف بحقهم في التعبير عن الذات والسلوك والاعتقاد، لكنّهم يجيزون لأنفسهم ما لا يقبلونه من غيرهم، حتى لو كان مؤذياً أو جارحاً. في قاموسهم، تصبح الحرية حقاً مطلقاً عندما تخصهم، بينما تتحول إلى قيد ضيق حين تتعلق بالآخرين. وهذا يكشف عن مقياس مزدوج يستخدم لتبرير الانحرافات السلوكية وإهانة الآخرين، متجاهلين القيود الشرعية والقانونية.
وتحول الانسلاخ عن القيم، في بعض الأحيان، من مجرد سلوك فردي إلى خطاب ممنهج، بل وأحياناً إلى استعراض وقح يسعى لإحداث الاستفزاز. لا يقتصر الأمر على ممارسة الحقوق الذاتية، بل يتعداه إلى محاولة فرضها بالقوة على الجميع، حتى لو أفضى ذلك إلى الانتقاص من كرامة الآخرين أو استفزاز شرائح مجتمعية بأكملها ترى في قيمها وتقاليدها عماداً رئيسياً لوجودها وهويتها. هذا التحوّل من الحقوق إلى الفرض، خصوصاً عندما يتعلق بالأفعال الشاذة التي تهدر الكرامة وتتجاوز الضوابط الشرعية والقانونية، يشكل تحدّياً جسيماً للتناغم الاجتماعي.
ليس المقصود من هذا الطرح الدفاع عن الأعراف بوصفها نصوصاً مقدسة لا تقبل المساءلة، فالمبادئ في أي مجتمع يجب أن تخضع للمراجعة والتطوير المستمرَين، وبعض العادات قد تحتاج إلى تنقية وتنقيح. ومع ذلك، هناك فارق جوهري بين التدقيق الواعي والمسؤول لمنظومة القيم، وبين الهدم العشوائي الذي لا يستند إلى أي معيار سوى الرغبة الشخصية، والذي غالباً ما يكون غطاءً لأفعال شاذة تُهين الآخرين وتُخالف الأطر المجتمعية والقانونية. يختلف النقد البنّاء الساعي إلى الإصلاح، عن التمرّد الذي لا هدف له سوى إثبات الذات أو خرق المألوف لخدمة مصلحة شخصية، يسعى لفرضها على الآخرين، بينما يرفض تلبيتها لهم إن طُلبت منه.
عن التمرّد الذي لا هدف له سوى إثبات الذات أو خرق المألوف لخدمة مصلحة شخصية، يسعى لفرضها على الآخرين
لا يمكن استيعاب الحريات أو ممارستها بمعزل عن الإحساس بالمسؤولية. فالحرية التي تتعدى على كرامة الآخرين، أو تمارس بأسلوب يستفز المشاعر الجمعية، لا تصنّف حرية، بل فوضى مقنّعة. وبالمثل، فإن الدفاع عن "الحق في التباين" لا يبرّر تحويل الفرد إلى سلطة فوق النقد، أو التعامل معه كياناً خارجاً عن السياق العام لا يخضع لمعايير المجتمع وقوانينه الأخلاقية الناظمة للتعايش، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بسلوكيات خارجة عن المألوف تتعدى على كرامة الآخرين والضوابط الشرعية والقانونية.
والمؤلم في هذا السياق أن هذا النمط من السلوك لم يعد مجرد حالات فردية متفرقة، بل أصبح جزءاً من ظاهرة أوسع تتغذى على خطاب منصات وسائل التواصل الاجتماعي، التي تُسهِم في تفريغ القيم من مضامينها، وتتّسم بالسطحية في تناول المفاهيم الجوهرية، وتُقدّم الحرية وكأنها انتقام من المجتمع، لا بوصفها سلوكاً واعياً ضمن إطاره. بل إن هناك من يربط بين التحرر والتخلّي عن أي انتماء قيمي، وكأنّ اكتمال الكرامة الفردية لا يتحقق إلا عندما تُهان كرامة الآخرين، في محاولة لتبرير الأفعال الشاذة والمهينة التي تتجاوز القيود الاجتماعية والشرعية.
وفي المقابل، يجب الإقرار بأن بعض مظاهر التمسك بالقيم في مجتمعاتنا قد تتسم بالتشدّد أو حتى النفاق أحياناً، ما يوفر للمتمردين مبرّرات جاهزة. فعندما تُمارَس القيم أداةَ قمع لا إقناع، ووسيلةَ سيطرة لا بناء، فإنّ الأفراد سيبحثون عن متنفس، وأحياناً عن صدمة تُحدث شرخاً في هذا الجدار السميك. لذلك؛ تقع مسؤولية جسيمة على عاتق المجتمعات نفسها لتحديث خطابها القيمي، وللتمييز الواعي بين العرف البالي والقيمة الحيّة التي تصون التوازن والكرامة، وتضع حدوداً واضحة للأفعال التي تُعد شاذة ومهينة للآخرين، وتخالف الضوابط الشرعية والقانونية.
لقد تفاقم الصراع الأبدي بين الفرد والمجتمع في عصر الإعلام الرقمي المتاح للجميع، وإذا لم نُحسن إدارته، فقد نجد أنفسنا أمام أجيال مشتّتة، غير قادرة على الانتماء الواعي أو التمرد البنّاء. فالاستقلالية حق لا جدال فيه، لكنها لا تكتمل دون احترام الآخر. والانفصال عن القيم لا يُعد شجاعة إذا قام على إنكار كرامة الآخرين أو التقليل من مبادئهم، أو إذا كان يمثل سلوكاً شاذاً يُروَّج له على أنه حرية، بينما هو في الحقيقة إهدار لكرامة الآخرين وتجاوز لكل الضوابط الاجتماعية والشرعية.
نسعى إلى بناء وعي جماعي يدرك أن الحياة المجتمعية تتطلب توازناً دقيقاً بين حقوق الأفراد وواجباتهم. لا يكمن الحل في فرض الالتزام أو محاربة الحريات، بل في تعزيز قدرة الأفراد على التعبير عن ذواتهم مع الحفاظ على احترام الجماعة. إنّ التغيير المجتمعي يجب أن يكون واعياً ومدروساً، متجذّراً في الأصالة، لا مجرد فوضى. فالمجتمعات لا تزدهر بالقمع ولا تنهض بالفوضى؛ بل تتقدّم عندما يتحول الاختلاف إلى حوار بنّاء، ويُصبح مصدراً للتنوع. عندها فقط، تُصبح الحرية التزاماً نابعاً من الاحترام المتبادل، لا مجرد ادّعاء زائف يُبرّر سلوكيات شاذة تُهدر كرامة الآخرين وتتجاوز الضوابط المشروعة.
فهل نستطيع خلق هذه المعادلة الصعبة التي تحقق التوازن وتحدّ من انتشار تلك الأفعال الشاذة باسم الحرية؟