التلوث الضوضائي ينهك أجساد العراقيين وعقولهم
عربي
منذ 6 ساعات
مشاركة

في زحام مدن العراق، لا سيما العاصمة بغداد، لم يعد التوتر وليد لحظة عابرة، بل بات رفيقا يوميا لسكانٍ تتعالى فوق رؤوسهم ضوضاء لا تنام، وتخترق تفاصيل حياتهم اليومية من أول نداء لبائع متجول صباحاً، حتى آخر أصوات أطفال يختمون يومهم بصراخ ومزاح مع حلول الليل قبل أن يتفرقوا إلى المنازل. 
وحذر رئيس المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان، فاضل الغراوي، أخيراً من تفاقم التلوث الضوضائي في البلاد، وأكد أن نسب الضجيج المسجلة في بغداد تجاوزت المعدلات الآمنة التي تحددها منظمة الصحة العالمية، والتي تتراوح بين 45 إلى 55 ديسيبل في المناطق السكنية. وأوضح أن أجهزة القياس سجلت مستويات بين 37.5 ديسيبل و76 ديسيبل في مواقع عدة بالعاصمة، وهي أرقام تضع آلاف المواطنين تحت وطأة خطر يومي صامت لا يُرى لكن يُنهك الجسد والعقل.
وتحدث الغراوي عن أن مصادر الضجيج في العراق لا تقتصر على المركبات والمولدات، بل تشمل أيضاً المعامل والورش الصناعية المنتشرة داخل المدن من دون رقابة بيئية، إلى جانب أصوات الطائرات، و"هذه البيئة المشبعة بالضوضاء تنعكس على الصحة العامة وتفاقم من المشكلات اليومية للعراقيين، لا سيما مع محدودية الخدمات الصحية النفسية".
وتفيد تقارير رسمية بأن عدد السيارات الخاصة في عموم العراق يبلغ نحو 8 ملايين، منها نحو 4 ملايين في بغداد التي تستطيع طرقاتها استيعاب 700 ألف سيارة.
من بغداد، يقول الخمسيني سعد العجيلي، لـ"العربي الجديد": "اتخذت قبل ثلاثة أعوام قراراً اعتبره كثيرون غير عقلاني حين استقلت من عملي في شركة تجارية كبيرة، وانتقلت مع أسرتي إلى بلدة ريفية في محافظة ديالى (شرق)، رغم ما عناه ذلك من تراجع كبير في دخلي".

يتابع: "كنت أعيش وسط بغداد وكان دخلي جيداً لكنني كنت أسمع يومياً الصراخ والشتائم ومنبهات السيارات وأصوات المولدات، وأعود منهكاً من العمل ولا أستطيع النوم حتى منتصف الليل، ثم وجدت نفسي أصرخ في وجه أطفالي بلا سبب. انتابتني حالات من العصبية والقلق، وكنت افتعل مشاكل في العمل أو في الطريق أثناء الزحام المروري، وحتى أنني ابتعدت عن أصدقائي، وبت لا أرغب في الخروج مع عائلتي أو أصدقائي للتنزه. قبل ثلاثة أعوام اختفت هذه الأعراض والتصرفات بعدما طبقت نصيحة قريبي المتخصص في علم النفس بأن أغير أسلوب حياتي ومنطقة سكني، وأنتقل للعيش مع أقاربي في القرية. كل شيء بخير الآن فالضوضاء شبه معدومة".
ولا يعاني العجيلي وحده من أمراض نفسية بسبب الضوضاء، فوفق تقارير متخصصة ارتفعت حالات "الإجهاد الصوتي" في العراق، وهو اضطراب نفسي ينجم عن التعرض المزمن للضوضاء، ويُعد من عوامل الضغط النفسي التي قد تتطور إلى سلوكيات عدوانية أو انهيارات نفسية.
وفي حين استطاع العجيلي الانتقال إلى منطقة أخرى للتخلص من الضوضاء، فإن هذا صعب على كثيرين، ومنهم سلوى عايد التي تعيش مع أسرتها في منزل لا تتجاوز جدرانه المساحة الفاصلة بين الضجيج الداخلي والخارجي داخل حي شعبي في بغداد. وتقول: "لا يستطيع زوجي أن يتحمّل نفقات السكن في مكان أهدأ، لذا تعيش أسرتي في الحي الشعبي المزدحم بالسكان والضجيج الخانق. تدخل أصوات الباعة وصغار الحي ومولدات الكهرباء كلها إلى بيتنا، ولا أذكر متى نمت في شكل متواصلاً آخر مرة. أعاني من دوار دائم بسبب التعب والحرمان من الراحة".

ويؤكد أخصائي الطب النفسي، فارس موفق، لـ"العربي الجديد": "فعلياً لم يعد التلوث في العراق مجرد إزعاج كما يعتقد البعض، بل بات عاملاً نفسياً مؤذياً يتسلل بصمت إلى حياة الناس. التعرض المستمر أو لوقت طويل لأصوات مرتفعة ومتكررة في بعض المناطق لا يعطي أي فرصة للراحة أو الهدوء، وتؤكد مشاهداتنا اليومية ارتفاع عدد المواطنين الذين يتعرضون لإرهاق نفسي واضطرابات نوم وقلق وانفعالات زائدة".
يتابع موفق: "مع تراكم الظروف الاقتصادية الصعبة والمشاكل الاجتماعية، يصبح الفرد أكثر عرضة للتصرفات غير المنضبطة، وقد يقوده ذلك إلى العنف أو حتى الانتحار. "لا تهاجم الضوضاء الجهاز العصبي فقط، بل تؤثر أيضاً على القلب، وتزيد احتمالات الإصابة بأمراض كالسكري من النوع الثاني، وتؤثر على التركيز والذاكرة خصوصاً لدى الأطفال، وهذه الأمراض شائعة في بلدنا اليوم".
ورغم خطورة الظاهرة لا تزال المعالجات الرسمية محدودة، ولا قوانين فعّالة للحدّ من التلوث الضوضائي، ولا أجهزة رقابة بيئية حقيقية داخل الأحياء، بينما يستمر الاعتماد على المولدات بسبب أزمة الكهرباء المستمرة، لكن الأمل لا يزال قائماً كما يقول موفق.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية