لم تبذل الفضائيات العربية الكبيرة أي جهد يُذكر لنقل وصول جورج عبد الله، آخر اليسار الطهراني في المنطقة على الإطلاق، إلى بيروت على الهواء مباشرة، بل اكتفى بعضها بخبر صغير أو سطر على الشريط الإخباري أسفل الشاشة،
ذلك أنهما زمنان لا يتقاطعان، فكرتان متناقضتان، مشروعان وأسلوبا حياة ليس ثمة مجال ليلتقيا عند حاجز مؤقت، أخلاقي إذا شئت، يتصافحان فيه قبل أن يمضي كل منهما في طريقه.
يضاف إلى ذلك أن الإفراج عن عبد الله ليس خبراً كبيراً، بل مجرد خبر بالنسبة إلى هذه الفضائيات، مثل تدهور حافلة في إحدى القرى الهندية، يمكن بثه في آخر نشرات الأخبار على سبيل التنويع ليس إلا.
وفي العُمق، ثمة رغبتان جامحتان إزاء جورج عبد الله لمن يعرفه تحديداً ويستطيع أن يموضعه في سياق سياسي أو أيديولوجي في المنطقة: واحدة تريده أن يُنسى، وأخرى أن يؤسطر فينسحب ماضيه على حاضر بائس تعيشه جماعات الشرق الأوسط ومجتمعاته. ويمثّل الرغبة الأخيرة تلفزيون الميادين، الوحيد الذي احتفى بعبد الله من بين عشرات الفضائيات العربية، إذ بدا كأن عبد الله هو مشروعه ورمزه الذي يعوّض وجوده الراهن "بيننا" غيابَ قادة محور المقاومة، وعلى رأسهم الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله.
كيف حدث هذا؟ أن تتحوّل رموز اليسار إلى أيقونات لدى ما تُسمى تيارات الإسلام السياسي، المقاومة منها على وجه الخصوص؟ هل يقفز هؤلاء فوق الحواجر والأيديولوجيات والانقسامات المذهبية وسواها لتتلقفهم حركات سياسية بمرجعيات دينية أصولية، وبعضها لا ينتمي إلى العصر، وتتبناهم بل تراهن على أن يصبحوا رموزاً لها؟
تلك كانت معضلة اليسار العربي، في راهنه البائس، والتي دفعته إلى التعلّق بمؤخرة العربة بدل أن يكون الحصان الذي يقودها.
حدث هذا تزامناً مع عمليات اختطاف منهجية لليسار مارستها قوى سياسية بمرجعيات دينية، مثل حزب الله، كانت قد انتهت من تصفية هذا اليسار نفسه الذي لم تختلف معه وحسب، بل سعت لتصفيته حرفياً، قبل أن تعيد إنتاجه، مُلحَقاً بها. وكان لا بد من قناع، بل أقنعة، لإقناع النُظّارة على المسرح السياسي والشعبي "أننا نمثّل الجميع"، المقاومة بكل أطيافها، وأننا الوَرَثة الشرعيون لإرث النضال البهي، واليسار على أخطائه كان فعلاً جزءاً أساسياً منه.
كان جورج عبد الله دون من أن يعلم جزءاً من إعادة بناء الصورة لهذه القوى، وربما راقته اللعبة، ذلك أن ما يعنيه كان وجود المقاومة نفسها واستمرارها، ولا يُلام سجين الحرية في باريس على من تبقى من يسار أصبحت مرجعيته الولي الفقيه.
وللإنصاف، فقد كانت لعبة ذكية أدارها حزب الله باحتراف، باختطافه اليسار أو بعضه، وبعض الليبراليين والقوميين، ولو كنتَ متابعاً لصحيفة الحزب "الأخبار" من دون أن تعرف أنها تابعة له، لخامرك شك أحياناً في الجهة التي تقف وراء إصدارها، ولظننت ربما أن الحزب ما بعد حداثي، وربما أقرب إلى جماعات الفوضويين في العالم.
كان جورج عبد الله خبراً رئيسياً في الصحيفة، وجوزيف سماحة أول رئيس تحرير لها، وأنسي الحاج أحد كتّابها، وكان يكفي أن تطالع أسماء مراسليها في بعض الدول العربية، لتعرف أن شبان اليسار يتجولون بين مكاتبها وفي حروفها.
كانت عملية اختطاف كبرى، تواطأ فيها الجميع على ترك "الأيديولوجيا" وراء ظهورهم، ليتبيّن للجميع أن هذا لا ينطبق على حزب الله نفسه الذي كان يزداد التحاقاً بالولي الفقيه، وتسويق العلاقة العضوية معه باعتبارها عابرة للأيديولوجيات، وما هي كذلك، لولا السلاح الذي كان يطلق الرصاص فيجعل الجميع يؤخرون طرح الأسئلة المحرجة على أنفسهم قبل الآخرين.
لم يكن جورج عبد الله هناك، بل في مكان آخر، مسجوناً في فرنسا، لأن ثمة ثمناً على كل مناصر لفلسطين أن يدفعه. كان أقرب إلى رموز آخر اليسار في العالم، وكانت آني إرنو (الفرنسية الحائزة جائزة نوبل في الآداب) أقرب إليه من جورج حاوي، فما بالك بحسن نصر الله، لكنّ ذلك بالضبط ما دفع حزب الله إلى التعلّق به أكثر وتبنّيه، فثمة حاجة دائماً لصورة أخرى لنا في الغرب، أو حتى أمام معارضينا في الداخل، وهو ما كان.
هذه الكتابة ليست عنك يا رفيق.