
على الرغم من صمود أهالي قطاع غزّة، وفصائل المقاومة الفلسطينية في مواجهة حرب الإبادة الإسرائيلية، كشفت الحرب "متانة" التحالف الأميركي الإسرائيلي، ما يطرح تساؤلاً عن "أثر المقاومة الفلسطينية في العلاقات الأميركية الإسرائيلية"، وعن "حدود قدرة المقاومة، بمفردها، على تعديل السياسة الأميركية تجاه قضية فلسطين والمنطقة، خصوصًا في عهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب".
في إطار تحليل أثر المقاومة الفلسطينية في العلاقات الأميركية الإسرائيلية، وتوضيح حدود قدرة المقاومة على تغيير سياسات واشنطن الإقليمية، يمكن التوقّف عند ثلاث ملاحظات؛ أوّلاها؛ التطور الملحوظ في أداء قوى المقاومة، بالتوازي مع عودة عجلة المفاوضات إلى الدوران، واستئناف جهود الوساطة القطرية، بعد وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران (2025/6/24)، ما يؤكّد إدراك المقاومة الفلسطينية للدوافع الإسرائيلية في توظيف نتائج الحرب على إيران، في فرض شروطٍ أكثر تعقيدًا وصرامةً، على مصير قطاع غزّة ومآلات قضية فلسطين إجمالاً.
اللافت في السياق ذاته، انتقال المقاومة الفلسطينية من وضعية "الدفاع" إلى "الهجوم" على قوات الاحتلال في قطاع غزّة، كما يتضح من جرأة مقاتلي كتائب القسّام وسرايا القدس، في تنفيذ عملياتٍ مركّبةٍ، وكمائن محكمةٍ، وجمع معلوماتٍ استخباريةٍ دقيقةٍ عن تحركات قوات الاحتلال بهدف أسر جنودٍ إسرائيليين؛ كما كشفته كلمة أبي عبيدة، المتحدث العسكري باسم كتائب القسّام بتاريخ (2025/7/18).
يبقى القول إن المقاومة الفلسطينية أثّرت على مكانة إسرائيل الإقليمية والدولية، واستطاعت تقليص شرعية إسرائيل واستنزفت صورتها الإعلامية، وكشفت زيف سرديتها اللاأخلاقية، وفضحت الانحياز الأميركي الأعمى لإسرائيل
على الرغم من التفوق العسكري/التقني/السيبراني الإسرائيلي الكاسح، في مقابل محدودية عتاد المقاومة الفلسطينية، فقد أسهمت طبيعة "الحرب غير المتناظرة" (Asymmetric warfare) بين الجيش الإسرائيلي النظامي (إضافةً إلى قوات الاحتياط)، ضدّ المقاومة في قطاع غزّة، في توليد أربع نتائج؛ أولاها؛ زيادة الكلفة البشرية والخسائر في الآليات والمعدات بالنسبة لجيش الاحتلال. وثانيها؛ فشله في تحقيق أهدافه العسكرية، وتآكل سمعته وقدراته الردعية ومعنويات جنوده، بوصفه من أقوى الجيوش في المنطقة، ومن أكثرها تطورًا تقنيًا على مستوى العالم. وثالثها؛ إبداع كتائب القسّام وسرايا القدس في توظيف أساليب "الحرب غير المتناظرة"، ومنها: زرع الكمائن المركبة، واستخدام الأنفاق القتالية واللوجستية والإدارية، وتوظيف مختلف أنواع المدافع المحمولة كتفًا؛ (آر بي جي) والعبوات الناسفة وبنادق القنص.. إلخ، من أجل مهاجمة جيش الاحتلال في أماكن لا يتوقعها، مع استمرار تماسك منظومة القيادة والسيطرة لدى فصائل المقاومة. ورابعها؛ تحويل المواجهة إلى "حرب استنزافٍ"، بغية تحقيق ثلاثة أهداف: 1- تغيير "حسابات النصر والهزيمة" لدى الطرف الإسرائيلي. 2- التأثير على تكتل/اصطفاف المجتمع الإسرائيلي خلف جيشه، وهزّ صورة رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو. 3- وصولاً إلى إفشال العمليات الإسرائيلية كلّها (وآخرها عربات جدعون)، مع استمرار بقاء فصائل المقاومة في قطاع غزّة، ورفضها الخروج منه، ناهيك عن قبولها نزع سلاحها.
وإذا كان صحيحًا أن أداء المقاومة القتالي لم يُترجم نفسه (حتّى الآن) في صورة إقناع واشنطن بتغيير سياساتها تجاه قطاع غزّة، وقضية فلسطين إجمالاً، ناهيك عن التأثير على "متانة" التحالف الأميركي الإسرائيلي، فإنّه من الصحيح أيضًا أنّ حرب الإبادة قد فشلت في تحقيق أهمّ أهدافها، المتمثّلة في تهجير أهالي غزّة، ناهيك عن غياب "الحسم العسكري" الإسرائيلي، على الرغم من الدعم الأميركي اللامحدود، وإحجام أغلب القوى الدولية والإقليمية عن تحدي سياسات واشنطن بهذا الصدد.
تتعلّق الملاحظة الثانية بأثر هجوم المقاومة الفلسطينية على مستوطنات غلاف غزّة (2023/10/7) في إرباك أغلب الاستراتيجيات الدولية والإقليمية، بما في ذلك السياسات الإسرائيلية نفسها، في ناحيتين على الأقلّ؛ إحداهما دفع مسار التطبيع الإقليمي مع إسرائيل، إلى مستوياتٍ "أقلّ علنيةً" في الحالات كلّها، أو عرقلة/إبطاء المسار في حالاتٍ أخرى، على الرغم من استمرار السياسة الأميركية في الضغط من أجل بلوغ هدف التطبيع، ودمج إسرائيل في المنطقة، من موقع قيادي متفوق.
أما الناحية الأخرى؛ فتتعلق بنجاح المقاومة الفلسطينية في تحويل إسرائيل "عبئًا استراتيجيًّا" على السياسات الأميركية في الإقليم والعالم، واضطرارها للبحث عن حلولٍ لإخراج نتنياهو (وإسرائيل عمومًا) من المأزق الاستراتيجي المتصاعد مع الشعب الفلسطيني في ثلاث مناسباتٍ على الأقلّ؛ أولاها؛ توقيع الرئيس ترامب (2025/2/7) أمرًا تنفيذيًا يقضي بمعاقبة الجنائية الدولية لإصدارها مذكرة اعتقال بحقّ نتنياهو بتهمة ارتكاب جرائم حربٍ في قطاع غزّة، ثمّ فرض وزارة الخزانة الأميركية (2025/2/13)، عقوباتٍ على المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان. وثانيها؛ اجتهاد واشنطن في إيجاد حلولٍ/مخارج لحليفها الإسرائيلي، كي يفلت من المسؤولية عن تجويع الغزّيين، واستهداف طالبي المساعدات، بطريقةٍ منهجيةٍ مقصودةٍ، لا سيّما حول مراكز مؤسسة غزّة الإنسانية الأميركية، التي تحولت إلى "مصائد موتٍ" للغزيين. وثالثها؛ مطالبة ترامب بإلغاء محاكمة نتنياهو أمام القضاء الإسرائيلي، أو منحه عفوًا، في إطار الترويج لحراكٍ أميركيٍ لإنهاء حرب غزّة، ما يذكّر بمحاولات الرئيس الأميركي السابق، جو بايدن، في مايو/أيّار 2024، الإيحاء بالبحث عن بدائل لنتنياهو، عبر استدعاء كبار الساسة الإسرائيليين إلى واشنطن (زيارات كلٍّ من: وزير الأمن السابق يوآف غالانت، وزعيم المعارضة يائير لابيد، والوزير السابق في حكومة نتنياهو، بني غانتس)، من دون أن تسفر زياراتهم عن نتائج ملموسةٍ، سواء في استبدال نتنياهو، أم وقف حرب غزّة.
اللافت في السياق ذاته، انتقال المقاومة الفلسطينية من وضعية "الدفاع" إلى "الهجوم" على قوات الاحتلال في قطاع غزّة
تتعلق الملاحظة الثالثة بإدخال العامل الزمني في تحليل أثر المقاومة الفلسطينية في العلاقات الأميركية الإسرائيلية. ورغم نجاح إسرائيل في توظيف الدعم الأميركي، في المدى الآني، فإن انفلات العدوانية الإسرائيلية في المنطقة، يمكن أن يؤدي إلى نتائج عكسية، في المديين المتوسط والبعيد، من شأنها إرغام واشنطن على إيجاد "نقطة توازن" بين المصالح الأميركية والإقليمية والإسرائيلية، ما يعني في المحصلة تآكل هامش حرية الحركة الإسرائيلية، على الصعيدين الفلسطيني والإقليمي.
استطرادًا في التحليل، ربما يؤدي تطور العدوانية الإسرائيلية تجاه المنطقة، لا سيّما بعد الحرب على إيران (13- 24 يونيو/حزيران 2025)، وكذا بعد العدوان على سورية، الذي طاول مقر هيئة الأركان في دمشق، ومحيط القصر الرئاسي (2025/7/16)، إلى تفعيل/تعظيم البعد الإقليمي في الصراع مع إسرائيل، وربّما تغيير مسألة "الإحجام الإقليمي" عن تحدي إسرائيل في سياسة إعادة رسم الخرائط والتوازنات الإقليمية، على نحوٍ يستدرج إقليم الشرق الأوسط إلى سيناريو "فوضى إقليمية شاملة"، ما يدفع بإدراك إقليمي أكبر حول تصاعد "التهديد الإسرائيلي" لكيانات/مقدرات الدول العربية والإقليمية، وربّما يدفع نحو سيناريو إيجابي يتمثّل في نجاح النظام الإقليمي في الشرق الأوسط في تحقيق قدرٍ أعلى من "التماسك" و"الاستقلالية النسبية" عن واشنطن، وهو ما يمكن أن يتعزز في حال نجاح نموذج المقاومة الفلسطينية في تحريك أنماطٍ من الحراك الشعبي العربي، الذي يعيد للأمة العربية وزنها، ويزيد احتمالات التقارب العربي مع تركيا وإيران، لإعادة بناء "منظومة أمنٍ إقليميٍ جماعيٍ" في المنطقة، تكون قائمةً على "عزل" إسرائيل ومواجهة سياساتها في تصدير أزماتها الداخلية نحو الخارج، عبر تفكيك الدول العربية وإضعافها، علمًا أنّ أسلوب الرئيس ترامب وتناقض سياساته، خصوصًا إصراره على سياسة تهجير الفلسطينيين واستعادة "الحلّ الإقليمي"، وتهميش قضية فلسطين، قد يفضي إلى تهديد معاهدتي السلام المصرية والأردنية مع إسرائيل، ما يعني احتمال إخفاق واشنطن في إعادة بناء الشرق الأوسط، على نحوٍ يخدم المصالح الأميركية، كما يتصورها الرئيس ترامب.
يبقى القول إن المقاومة الفلسطينية أثّرت على مكانة إسرائيل الإقليمية والدولية، واستطاعت تقليص شرعية إسرائيل واستنزفت صورتها الإعلامية، وكشفت زيف سرديتها اللاأخلاقية، وفضحت الانحياز الأميركي الأعمى لإسرائيل، لكن التأثير على العلاقات الأميركية الإسرائيلية يحتاج قدراتٍ أكبر مما تملكه المقاومة الفلسطينية؛ أي يحتاج إلى قدرات دولٍ إقليميةٍ وازنةٍ، ونظامٍ إقليميٍ متماسكٍ يضغط على صانع القرار الدولي والغربي، خصوصًا الأميركي، كما حدث في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، على نحوٍ يدفع بالسياسة الأميركية تجاه فلسطين والمنطقة إجمالاً، إلى تبني "منظورٍ إقليميٍ شاملٍ"، يراعي مصالح دول الإقليم كافة، ولا يختزل كلّ شيء في "المنظور الإسرائيلي" فقط.

أخبار ذات صلة.
