ملاحظات منهجية حول مفاوضات وقف النار في غزة
عربي
منذ 6 ساعات
مشاركة

ثمّة ملاحظاتٌ منهجيةٌ يجب تسجيلها حول مفاوضات وقف إطلاق النار في قطاع غزّة، مع ممارسة إسرائيل سياستها المعتادة بإغراقها بالتفاصيل، ورفع السقف عاليًا لخفضه في ما بعد، وتصوير ذلك تنازلًا، رغم أنه يجري على أرضية الرؤية الإسرائيلية الموضوعة سلفًا تجاه قطاع غزّة، والقضية الفلسطينية عامةً، إضافةً إلى سعي رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو الدائم إلى تأخير التفاوض حتّى فض دورة الكنيست الصيفية، في نهاية شهر يوليو/تموز الجاري، وإطالة الحرب إلى أبعد مدى زمني ممكن، لضمان البقاء في السلطة، والتوصل إلى تسويةٍ محتملةٍ في سلسلة محاكمته الطويلة، من موقع قوّة السلطة لا برود المعارضة وضعفها، والأهمّ الذهاب إلى الانتخابات المبكرة القادمة بالظروف المناسبة له، علمًا أنّها باتت مسألة وقتٍ فقط، مع استقالة وزراء الأحزاب الدينية رفضًا لقانون التجنيد الجديد لجمهورهم. فمسألة الانتخابات أمرٌ لا يرتبط بالحرب فقط، إنّما بالتناقضات الداخلية، وأزمة الدولة العبرية البنيوية، التي أخرت الحرب انفجارها، مع الإشارة إلى استطلاعٍ لافتٍ للرأي في 2025/7/11، أظهر أولوية القضايا الداخلية لدى الجمهور الإسرائيلي على الحرب في قطاع غزّة، والقضية الفلسطينية عامةً.

بدايةً، تتضمن خطوط الاتّفاق العريضة هدنةً لمدّة ستين يومًا، وإدخال المساعدات الإنسانية بكمياتٍ معقولةٍ تتراوح حول 500 شاحنةٍ يوميًا، في حين كانت تدخل 600 شاحنةٍ يوميًا قبل الحرب، علمًا أنّ قطاع غزّة يحتاج إلى عشرة أضعاف هذا الرقم وفق الأمم المتّحدة ومنظّماتها ومؤسساتٍ دوليةٍ أخرى، إضافةً إلى ذلك يتضمن الاتّفاق المطروح الحفاظ على منظّمة غزّة الإنسانية سيئة الصيت، وتبادل أسرى يتضمن إطلاق عشرة منهم أحياء و18 أموات مقابل الإفراج عن قرابة 1500 أسيرٍ فلسطينيٍ ثلثهم من أصحاب المؤبدات والمحكوميات الطويلة، وثلثاهم من معتقلي غزّة المدنيين بعد الحرب، الذين لم يوجه لهم الاحتلال أيّ تهمٍ، ولم يرسلهم إلى المحاكم العسكرية على علاّتها، إذ باتوا عبئًا عليه، ما اضطره لإطلاق مجموعاتٍ صغيرةٍ منهم على دفعاتٍ شبه أسبوعية.

ثمّة نقاشاتٌ  مطولةٌ حول مفاتيح تبادل الأسرى، التي ستكون على الأغلب وفق معادلة  1 مقابل 50 كما جرى سابقًا، علمًا أن الأسرى الإسرائيليين العشرين الأحياء لدى المقاومة بعد إطلاق المسنين والنساء والأطفال وحتى الشباب بسن القتال هم من الجنود النظاميين، الذين أُسروا في مواقعهم العسكرية صبيحة السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وهناك بالطبع نقاشاتٌ موازيةٌ حول المساعدات وكميتها وكيفية إدخالها وآلية توزيعها وطرق عبروها، إلّا أنّ الخلاف الجوهري يتركز حول نقطتين أساسيتين هما: خطوط  الانسحاب، وللدقة إعادة انتشار جيش الاحتلال في القطاع خلال فترة الهدنة، وضمانات وقف إطلاق النار التام، ونهاية الحرب وعدم استئنافها بعد انقضاء الهدنة، حتّى لو لم يتوصلوا إلى اتّفاقٍ نهائيٍ.

حسب التكتيك التفاوضي الإسرائيلي التقليدي، فلن تكون أيّ عودة إلى خطوط اتّفاق يناير، وعلى الأغلب سنكون أمام ما يمكن تسميتها خطوط يناير بلاس

منهجيًا وفي ما يتعلق بالمفاوضات عامةً، والبندين الشائكين خاصّةً، فنحن بالتأكيد أمام مماطلةٍ إسرائيليةٍ معتادةٍ، إذ ترفع السقف عاليًا جدًا، ثمّ تخفضه لاحقًا، وتصور ذلك تنازلاً أو تراجعًا، كما في تمسّك إسرائيل بمحور موراج أو صلاح الدين (فيلادلفي 2) أولاً، الذي يقسم جنوب القطاع إلى قسمين، ويفصل بين مدينتي رفح وخانيونس، ما يفضح بالحقيقة تكتيك التفاوض الإسرائيلي المعتاد للفت الانتباه عن تكريس "فيلادلفي 1" حقيقةً واقعةً، علمًا أنّه بات فعليًا خارج التفاوض، رغم أنه كان كذلك في اتّفاق وقف النار الأخير في يناير/كانون الثاني الماضي.

التكتيك ذاته اتبع في "فيلادلفي 1"، برفع سقفٍ آخر يتعلق بالاحتفاظ بشريطٍ أمنيٍ حوله بعمق ثلاثة كلم، ضمن المنطقة العازلة الممتدة بحدود القطاع، ويتوغل لعمق مدينة رفح حتى الشارع المركزي فيها (شارع البحر)، الممتد من شرقها إلى غربها، والواصل أيضًا بين شمالها وجنوبها. هنا أيضًا رفع السقف ثم خُفضه، وصُور تنازلًا، والبقاء بعمق يتراوح بين 1500 إلى 2000 مترٍ، ما يفضح من جهة أخرى تكتيك التفاوض لجهة تكريس فكرة عدم العودة إلى خطوط يناير – مارس، حيث كانت المنطقة العازلة تمتد داخل القطاع بعمق 700 إلى 1000 تقريبًا.

تستحق قضية المنطقة العازلة التوقف عندها مليًا، حيث كانت تقتطع سدس مساحة القطاع تقريبًا في اتّفاق يناير، الذي أوقف في أول مارس/آذار وانتهك فعليًا منتصف الشهر نفسه، ومواصلة الحرب مرّةً أخرى، لتتضاعف مساحة المنطقة العازلة تقريبًا خلال أربعة أشهر، وتبتلع ثلث مساحة القطاع.
تمتد المنطقة العازلة بحدود القطاع من بيت حانون وبيت لاهيا شمالًا إلى رفح وخانيونس جنوبًا، وتقتطع سلة غذائه، بعد تدمير المنطقة وتحويلها إلى أرضٍ محروقةٍ ومكشوفةٍ، كما كُرّس في اتّفاق يناير قاعدة لإعادة انتشار جيش الاحتلال في القطاع المدمر، لتتضاعف تقريبًا خلال الأربعة أشهر الماضية بعد استئناف الحرب وتبتلع ثلث مساحة القطاع.

الشاهد، أنّه حسب التكتيك التفاوضي الإسرائيلي التقليدي، فلن تكون أيّ عودة إلى خطوط اتّفاق يناير، وعلى الأغلب سنكون أمام ما يمكن تسميتها خطوط يناير بلاس، وبين 16- 35 % سيكون حلٌّ ما، وستصبح المنطقة العازلة ربما بحدود 20 إلى 25%.

هذا يعني أننا سنكون أمام خطوطٍ جديدةٍ نستطيع أن نسميها خطوط يوليو/تموز، التي سيتم التفاوض عليها مرّةً أخرى في حالة استئناف الحرب، إثر انتهاء مهلة الشهرين، ولو بعد فترةٍ انتقاليةٍ كما جرى مع اتّفاق يناير.

أما نقطة الخلاف الثانية في المفاوضات، والتي يفترض التوقف والتمعن فيها جديًا، فتتمثّل بضمانات نهاية الحرب، وعدم العودة إليها بعد هدنة الشهرين، حتّى لو لم يتم التوصل إلى اتّفاقٍ نهائيٍ خلالها. تبدو كلمة نهائي هنا صادمةً، وتعبر عن الواقع الراهن المؤلم فلسطينيًا، وبعدما كنا نتحدث عن اتّفاقٍ نهائيٍ زمن مدريد- أوسلو وعملية التسوية بمنحاها السابق، يتعلق بالدولة الفلسطينية والحدود والقدس واللاجئين والاستيطان والمياه والترتيبات الأمنية، أصبحنا نتحدث عن اتّفاقٍ نهائيٍ لوقف الحرب في قطاع غزّة، أو ما يعرف بمصطلح "اليوم التالي"، مع تباينٍ كبيرٍ في رؤيا الطرفين، إذ يتعمد بنيامين نتنياهو عدم طرح تصوره الخاص لليوم التالي، وإبقاء الأبواب مفتوحة، ولو نظريًا أمام التهجير والاستيطان، وحتّى إعادة احتلال القطاع كاملًا، في حين لا تملك حماس تصورها الواضح والصريح لليوم التالي، في ظل رغبتها الدفينة بالبقاء بالسلطة، والعودة إلى مساء السادس من أكتوبر 2023. ومن جهةٍ أخرى تفتقد القيادة الفلسطينية الرسمية إلى المصداقية والثقة، وربّما الشرعية، لطرح تصورها لليوم التالي، استنادًا إلى تفاهمٍ وطنيٍ عامٍ، وفق خريطة طريقٍ منطقيةٍ وواقعيةٍ؛ حكومة توافقٍ، وإنهاء الانقسام، وتوحيد المؤسسات، وإعادة الإعمار، وإجراء الانتخابات العامة بعد فترة تعافيٍ معقولةٍ وقابلةٍ للتطبيق، وتنال تأييد ودعم العالم العربي والمجتمع الدولي لها.

نحن بالتأكيد أمام مماطلةٍ إسرائيليةٍ معتادةٍ، إذ ترفع السقف عاليًا جدًا، ثمّ تخفضه لاحقًا، وتصور ذلك تنازلاً أو تراجعًا، كما في تمسّك إسرائيل بمحور موراج أو صلاح الدين

في الأخير باختصارٍ وتركيزٍ، نحن أمام تكتيكٍ إسرائيليٍ تقليديٍ يتعمد إغراق المفاوضات بالتفاصيل حول تبادل الأسرى، والمساعدات، وخطوط إعادة الانتشار، وفي أحسن الأحوال حتى لو تم التوافق حول نهاية الحرب، والانسحاب من القطاع المدمر، فلا حديثٌ عن أفقٍ سياسيٍ جديٍ نحو حلٍّ عادلٍ شاملٍ ومستدامٍ للقضية الفلسطينية، إنّما عودةٌ، مع تحديثٍ ما، إلى مساء السادس من أكتوبر، أي اليوم السابق لا التالي، ما يعني استمرار الاحتلال والحصار والانقسام والانفصال عن الضفّة الغربية، وانشغال قطاع غزّة بنفسه، في عملية تعافيٍ وإعمارٍ ستستغرق سنواتٍ وعقودًا طويلةً جدًا، حسب  تقديرات -تحذيرات الأمم المتّحدة.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية