هذا الجوع كلّه في غزّة
عربي
منذ 5 ساعات
مشاركة

يفقد العالم الحرّ إنسانيته، وهو يستمرّ في رؤية الفلسطينيين يُقتلون يومياً في الطابور، قرب نقاط توزيع الغذاء في غزّة، بيد الجيش الإسرائيلي وفريق من الحرّاس المرتزقة الأميركيين، في أثناء اقترابهم من موضع تقديم المساعدات الغذائية ونقطة توزيعها، لتُرسم خريطة رعب من عدم وجود طريقة سلميّة للقيام بالأمر، في عالم يحرف عينيه عن هذا الجوع والألم كلّه، ويصمت أمام مذبحة. في ثانية واحدة يموت المسنّون ويرتقي الأطفال، بينما لا يفعل المجتمع الدولي شيئاً لوقف الكارثة الٳنسانية.
لم تعد الأرقام تحمل معنى. يقف عشرات الآلاف تحت شمس حارقة، تراقبهم الدبّابات، في طابور طويل يمتدّ جنوباً في ثاني أكبر مدينة في قطاع غزّة. يسيرون أميالاً للوصول إلى مركز توزيع الطعام في ضواحي خانيونس، ومع تزايد الحشود، يطلق الحرّاس المرتزقة الأميركيون النيران في الهواء، وتصيب نيران الجنود الإسرائيلين الحشود، فتختلط دماء الجائعين بصناديق كرتونية وأكياس طحين، لا تكفي أسرة أسبوعاً. يكشف ذلك شدّة المجاعة الخانقة، إذ يعيش السكّان أوضاعاً كارثيةً بعد سنتَين من الحصار والدمار، ووفق برنامج الغذاء العالمي، فإن نصف السكّان مهدّدون فعلياً بالموت من الجوع وسوء التغذية، في غياب ممرات إنسانية آمنة. وقد رفضت الأمم المتحدة، ومنظّمات غير حكومية عديدة، خطّة التوزيع المعتمدة، معتبرةً أنها لا تضمن سلامة المدنيين في القطاع، والنظام الغذائي المتّبع يدفع الفلسطنيين إلى الاختيار بين الموت بالرصاص أو المجازفة بالحصول على كميّة ضئيلة من الغذاء، وإسرائيل لا تنسّق البتّة مع وكالات الإغاثة رغم ادّعائها توفير مناطق آمنة.

ينقل مقرّبون عن نتنياهو أنه حان الوقت لـ"إسرائيل الكُبرى"، وهو إنْ حدث فستكون هناك نكبات لاحقة برغبة أميركية 

الصور الصادمة، تمثّل إهانة للبشرية، وتبشّر بمستقبل عصر سياسي غير أخلاقي، لا يتردّد في استخدام مصطلح الإبادة أداةً سياسية في صراع العلاقات الدولية، ما يطرح تساؤلاتٍ عن دور المنظّمات والوكالات الدولية، وعن مصداقية النظام الدولي وازدواجية المعايير في تطبيق القانون الدولي الإنساني، سيّما الدول التي تراقب الإبادة المستمرّة منذ 21 شهراً بصمت مُخزٍ، فتتبنى سياسات حذرة خوفاً من استفزاز الوحش الإسرائيلي الذي فقد إنسانيته، وأعمته الرغبة في الانتقام، وما يسمّى بأمن دولته العنصرية، فأخذ على عاتقه حقّ القتل. لا أحد يوقفه، إذ يستمرّ في ذلك، حتى لو ظهرت إسرائيل دولةً مجرمةً في جميع أنحاء العالم، ويكافح المراقبون للعثور على مبرّر عسكري لإسرائيل في ما يتعلّق بتقييد الغذاء والماء والدواء عبر الضغط على الفلسطينين المحاصرين في جيوب ضيقة من غزّة. وقدّرت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) بأنه "يقتل يومياً في المتوسّط، منذ بداية الحرب، ما يُعادل صفّاً دراسياً كاملاً من الأطفال"، إضافة ٳلى تدمير البنية التحتية والمستشفيات والمدارس والمباني... ومن دون وسائل لمساءلة ومحاسبة مرتكبي الجرائم ومتعهدي حفلات الموت على الشاطئ، وإطلاق النيران الحيّة في عمليةٍ إغاثة تصفها أميركا بأنها "قصّة نجاح"، لأنها تساعد في فكّ الارتباط بين سكّان غزّة وحركة حماس (!).
مع ذلك، يتردّد العالم بين الإجماع على الفعل المادي والخلاف في نيّة إسرائيل تدمير الشعب الفلسطيني في أخطر الجرائم ضدّ الإنسانية بتوصيف القانون الدولي، وهي لا تتناول إثنيّة أو قومية عربية أو دينية، بل شعباً فلسطينياً بكامله. يتطلّب القانون الدولي توفّر العنصر المادي والنيّة والقصد، ولا يختلف معظم القانونيين والسياسيين على وجود العنصرَين، ومن الغريب الجدل الذي ما زال دائراً حول النيّة عند اليمين الإسرائيلي المتطرّف، في حين أنّ تصريحاته المعلنة هي من نوع؛ "قتل الفلسطينيين"، و"محو غزّة"، و "لا مدنيين أبرياء هناك". وبعضهم ما زال يتصوّر أنه لا توجد في إسرائيل سياسة واضحة ومنظّمة وهادفة وعنصرية، تقوم على أفعال منظّمات عصابات عنف منذ 1948، وعلى سياسات عسكرية تهدف إلى تدمير الجماعة الفلسطينية ونفيها وتشريدها وتجويعها.
هذه ليست جريمة فحسب، بل جرائم حرب ضدّ الإنسانية في عملية تطهير عرقي واضحة المعالم، وإيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش هما أوضحُ وجهَين لها، وللفاشية القومية الإسرائيلية مع نوع غريب من الكراهية والعنف، وتعبير مرعب عن استيطان متوحّش، لا يتوقّف عن نية تهويد فلسطين بأكملها. كأنّ المطلوب أن ينتظر الشعب الفلسطيني طويلاً ليستكمل شرط التحكيم المتعلّق بجوهر المسألة، أي إثبات نيّة الإسرائيلي التي ترتبط بذاكرة نظام المحاكمات التاريخية الكُبرى للهولوكوست، وفي روندا والبوسنة. ولم تدعم دول الغرب، وعدد من الدول العربية، بخلاف عالم الجنوب والبلدان النامية، بفعالية رواية الإبادة الجماعية المرفوعة من دولة جنوب أفريقيا، جزءاً من نقد النظام الدولي الٳنساني الحالي وتناقضاته.
لسنوات، كان نشطاء حقوق الإنسان يقولون بأعلى الصوت الممكن إن نظام الاحتلال المتشابك والمترابط من جنود ومستوطنيين وشرطة ومحاكم عسكرية وإعلام، بقيادة حكومة يمينية، متورّط في جريمة مستمرّة، وبتطهير عرقي لا هوادة فيه لسكّان غزّة، ولسكان المنطقة "C"، التي تشمل 60% من الضفة الغربية (قبل مقترح الكنيست، الذي يقضي بضمّها وغور الأردن).
لا يفعل العالم شيئاً لوقف هذه الآلة التي لا ترحم، وتتفاقم الأمور تصاعدياً منذ بداية الغزو الإسرائيلي لغزّة في 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وتتطوّر لتدمّر كلّ شيء، من كهرباء ومياه وإسكان ومخازن وغذاء، وكلّ ما هو حيّ. وفاقم الأوضاع القرار الذي اتّخذه الرئيس الأميركي دونالد ترامب في "توجيه الأولويات"، الذي أوقف مساعدات "أونروا"، التي تعتبر شريان الحياة للفلسطينين في تمويل برامج الغذاء والتعليم والبينة التحتية، ما عزّز نتائج كارثية على الأرض.

الصور الصادمة في غزّة إهانة للبشرية، وتبشّر بمستقبل عصر سياسي غير أخلاقي

ما يحدثُ هو فصل كارثيّ في التاريخ الإنساني، ليس بالنسبة للشعب الفلسطيني فحسب، بل لليهود، وأيضاً للعالم أجمع. إن ما يجري يترك عاراً أخلاقياً لا يُنسى، ونتنياهو، كما يقول المقرّبون منه، يعتبر أن الوقت حان لـ"إسرائيل الكُبرى"، وإذا حدث ذلك، فستكون هناك نكبة ثانية وثالثة ورابعة برغبة أميركية. والآمال في وقف الحرب ترتبط بأنْ تقتنع الولايات المتحدة، التي تقوم بمهمّة قذرة، بأنّ حكومة بنيامين نتنياهو تستخدم التجويع الجماعي في أمل تطهير عرقي في غزّة، وواشنطن قدّمت 22 مليار دولار للعمليات العسكرية رغم الجرائم المرتكبة. لن ينسحب نتنياهو من الأراضي المحتلة، ويقول إنّه سيقوم بأشياء تضاهي ما قام به ديفيد بن غوريون، في إرثٍ إرهابي يشبه القرارات التي حدّدت مصير إسرائيل، ومن دون حذر من الذهاب نحو سيناريوهات تصعيدية كُبرى في المنطقة كلّها.
يحتاج الأمر إلى تفعيل عمل لجان التحقيق الدولية في هذه المجازر المرئية (مع أن إسرائيل لا تزال تمنع الصحافيين الأجانب من دخول غزّة)، والصور المباشرة تُظهر مدنيين يحملون قدوراً فارغةً ويسقطون أرضاً وسط الضغط. كل ما تظهره موجات الاستنكار الواسعة حول العالم، بما فيها انتقادات مباشرة من مسؤولي الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، لا تساهم في تغيير الواقع، والمطلوب حلّ واضح، وشجاعة سياسية، لينفّذ العالم وعوده بالوقوف في وجه الجنون المتأصّل في تصرّفات قادة الدولة العبرية منذ زمن بعيد، في بيئات ملوثة تقوم على سرد قصص القتل، وتسكت عن أنماط متكرّرة في حرب هدفها واضح: إبادة الشعب الفلسطيني، وعلى العالم (كلّ العالم) أن يتحمّل مسؤولية كاملةً في التغاضي عنها.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية