
يقول إدغار موران: "علينا تعليم شرط إنسانيتنا وهويتنا الأرضية، وأن نفهم أن البقاء يتجاوز الكائن البيولوجي إلى الكائن الثقافي"... حين كتب ميشيل فوكو في 1975 كتابه "المراقبة والمعاقبة... ولادة السجن"، كان يحلّل كيف انتقلت السلطة من معاقبة الأجساد علناً إلى تطويعها سرّاً. لم يكن فوكو يتنبأ آنذاك بأن نظريته عن الجسد المُطوَّع (Docile Body) ستجد تطبيقاتها الأكثر قسوةً في القرن الحادي والعشرين، إذ سيتحوّل الجوع من حالة بيولوجية إلى تقنية سياسية دقيقة لإعادة تشكيل الجماعات الإنسانية. وقد وصف فوكو كيف أن "الاستثمار السياسي للجسد مرتبط، وفقاً لعلاقات متبادلة معقّدة، باستخدامه الاقتصادي، إنه إلى حدّ كبير قوة إنتاج يُستثمَر عبرها الجسد في علاقات السلطة والهيمنة". اليوم، نشهد تطوّراً مرعباً لهذه الأطروحة: الجسد لا يُستثمَر قوة إنتاج فقط، بل يُحاصَر موقعاً للمقاومة يجب إخضاعه عبر منع أبسط شروط بقائه.
ما نشهده اليوم من تحويل غزّة مختبراً مفتوحاً لتقنيات التجويع المُمنهَج، يدفعنا إلى إعادة النظر جذرياً في الطبيعة الأنثروبولوجية للجوع ذاته. لم يعد الجوع مجرّد حالة عارضة تفرضها الكوارث الطبيعية أو النقص الاقتصادي، بل بات حدثاً معرفياً يكشف انقطاعاً أبستيمولوجياً عميقاً في فهم العلاقة بين السلطة والجسد. يحيلنا هذا الانقطاع على ما وصفه فوكو في محاضراته اللاحقة بـالسلطة الحيوية (Biopolitics)، تلك الآليات التي لا تكتفي بالسيطرة على الأرواح والممتلكات، بل تتوغّل في صميم الحياة البيولوجية نفسها، تنظّمها وتتحكّم فيها وتعيد تشكيلها وفق أهداف سياسية محدّدة.
لم يعد الجوع حالة تفرضها الكوارث أو نقص الاقتصاد، بل حدثاً يكشف انقطاعاً أبستيمولوجياً في فهم العلاقة بين السلطة والجسد
في هذا السياق النظري، تكتسب أطروحة أمارتيا سن عن المجاعات دلالةً استثنائيةً، تتجاوز حقول الاقتصاد إلى آفاق الأنثروبولوجيا السياسية. قدّم سن، في كتابه "الفقر والمجاعات... مقال في الاستحقاق والحرمان" (1981)، نقداً جذرياً للفهم التقليدي للمجاعات باعتبارها مجرّد نتيجة لنقص الطعام. بدلاً من ذلك، طوّر مفهوماً ثورياً أسماه "فشل الاستحقاقات" (Entitlement Failure)، مُشيراً إلى أن المجاعة تحدُث عندما تفشل الآليات الاجتماعية والاقتصادية في ضمان وصول الناس إلى الطعام المتاح فعلياً. ويحمل هذا المفهوم ثراءً نظرياً يتجاوز التفسيرات الاقتصادية البحتة إلى فهم الجوع ظاهرةً سياسيةً واجتماعيةً معقّدة. تحليل سن العميق للمجاعة الكبرى في البنغال عام 1943 يكشف حقيقةً صادمةً: لم تحدث هذه الكارثة الإنسانية بسبب نقص فعلي في الطعام، بل بسبب تفكّك نظم التوزيع والوصول في ظلّ الحرب العالمية والإدارة الاستعمارية البريطانية. هنا نكتشف كيف يمكن للجوع أن يصبح سلاحاً سياسياً حتى في غياب النقص الفعلي للغذاء.
التاريخ الأنثروبولوجي للجوع يكشف أنماطاً متكرّرةً ومؤلمةً من استخدام الغذاء أداةً للسيطرة والإخضاع. في إيرلندا خلال القرن التاسع عشر، لم تكن المجاعة الكبرى (1845-1852) مجرد كارثة زراعية بسبب مرض البطاطا، بل كانت نتيجةً مباشرةً لسياسات اقتصادية استعمارية تبنّت مبدأ "دعه يعمل"، ورفضت توزيع الحبوب المتاحة بين الفلاحين الأيرلنديين. المفارقة المأساوية أن بريطانيا استمرّت في تصدير الطعام من إيرلندا، حتى وهي تشهد موت أعداد كبيرة من السكّان جوعاً، إذ أصبح واضحاً أن الحكومة كانت تستخدم معلوماتها ليس لمساعدتها في صياغة سياسات الإغاثة فقط، بل أيضاً فرصةً لتسهيل تغييرات مختلفة كانت مرغوبةً منذ فترة طويلة آنذاك داخل إيرلندا.
في السياق السوفياتي، يقدّم الهولودومور في أوكرانيا (1932-1933) مثالاً واضحاً على الجوع تقنيةً سياسيةً مُمنهجةً. هذه المجاعة، التي أودت بحياة حوالى 3.9 ملايين أوكراني، لم تكن نتيجةً لفشل في المحاصيل، بل لقرارات سياسية مدروسة اتخذها ستالين وقيادة الحزب الشيوعي. وقد وضعت القيادة السوفياتية مقادير حصص مستحيلة لشراء الحبوب من أوكرانيا، وأرسلت فرقاً خاصّة لمصادرة الطعام من البيوت، وسنّت قوانين تجعل سرقة "الملكية الاشتراكية" (حتى لو كانت حفنة من القمح) جريمة يُعاقب عليها بالإعدام. في ذروة المجاعة، كانت معدّلات الوفيات اليومية تصل إلى مستويات كارثية، بينما كان الاتحاد السوفياتي يصدر كميات كبيرة من الحبوب إلى الغرب.
تعلمنا التجارب المعاصرة، والتاريخية المشابهة، أن جسد الإنسان قادر على إعادة اختراع المعنى، حتى في أحلك الظروف، والقدرة على الاستمرار، على المقاومة، على رفض الانكسار
وتكشف هذه الأمثلة التاريخية نمطاً أنثروبولوجيا ثابتاً: الجوع تقنية حكم تستهدف، ليس الأجساد الفردية، بل الجسد الاجتماعي والثقافي للجماعات المقاومة. لكن المفارقة الأنثروبولوجية العميقة تكمن في أن استراتيجيات التجويع هذه لا تؤدّي دائماً إلى الانهيار المتوقّع للبنى الاجتماعية، بل كثيراً ما تولّد أشكالاً جديدة ومبتكرة من التنظيم الاجتماعي والمقاومة الثقافية. هنا نجد أنفسنا أمام ما يمكن تسميته بـ"الاستجابة الثقافية المقاومة"، تلك العمليات التي تعيد بها المجتمعات اختراع ثقافتها ومعانيها في مواجهة محاولات تفكيكها. وتظهر الدراسات الأنثروبولوجية المقارنة كيف أن الجوع المُمنهج، بدلاً من أن يحطّم الروابط الاجتماعية، يؤدّي أحياناً إلى تعميقها وإعادة تشكيلها بطرق أكثر عدالة وتضامناً.
في الأنثروبولوجيا البنيوية، كما طوّرها كلود ليفي ستراوس في أعماله الكلاسيكية مثل الأساطير الأولية (Mythologiques)، ليست الطقوس مجرّد ممارسات اجتماعية، بل خرائط معنى معقّدة، تساعد المجتمعات في فهم تجربتها الوجودية وتنظيمها. أظهر ليفي ستراوس كيف تعكس الطقوس الغذائية، من الطبخ إلى التوزيع إلى الاستهلاك، بنى عقليةً عميقةً تنظم فهم المجتمع لنفسه وللعالم المحيط به. في سياقات الجوع المُمنهج، نشهد ولادة طقوس جديدة للبقاء: طقوس الانتظار في طوابير الطعام التي تمتدّ ساعات، طقوس البحث عن مصادر غذائية بديلة في الخراب، طقوس تقسيم الشحّ بعدالة تفوق أحياناً عدالة الوفرة. هذه الطقوس تحمل وظيفةً رمزيةً مضاعفةً، فهي من جهة تنظّم التجربة المؤلمة وتجعلها قابلةً للتحمّل النفسي والاجتماعي، ومن جهة أخرى، تصبح من أشكال المقاومة الثقافية التي ترفض السماح للجوع بأن يُفقِد الحياة معناها الإنساني.
يؤكّد ما نراه في بعض السياقات المعاصرة هذه الأطروحة الأنثروبولوجية، فتتحوّل استراتيجيات البقاء من مجرّد ممارسات يائسة إلى أشكال من الإبداع الغذائي المقاوم، تلك العمليات المعقّدة التي تعيد بها الجماعات اكتشاف مصادر غذائية بديلة، وطقوس توزيع جديدة، تعكس قيماً أخلاقية تضامنية عميقة. هذا ما نشهده عندما تتطوّر ممارسات مثل استخراج الدقيق من مصادر غير تقليدية، أو عندما تبتكر العائلات طرقاً دقيقة لتقسيم الطعام الشحيح بعدالة مطلقة، تفوق أحياناً عدالة أزمنة الوفرة، أو عندما تتشكّل شبكات تضامن اجتماعي جديدة تعيد تعريف معنى الجماعة والانتماء.
يعيد الجوع تشكيل الزمن نفسه أيضاً، وهنا نلمس أحد أعمق أبعاده الأنثروبولوجية. في الحالات العادية، الوقت منظّم حول الوجبات علاماتٍ زمنيةً، تمنح الحياة إيقاعها المنتظم (الإفطار، الغداء، العشاء)، وكلٌّ منها يحمل طقوساً اجتماعية وثقافية محدّدة. في سياقات الجوع المُمنهَج، الزمن يصبح زمناً جائعاً، زمناً معلّقاً، منتظراً، متشكّكاً في إمكانية الوجبة التالية، مُحاصراً بين الرغبة والحرمان. ولهذا التحوّل الزمني أبعاده في الأنثروبولوجيا الثقافية، الوقت ليس مجرّد قياس رياضي أو تقويم، بل بنية معرفية تنظّم التجربة الإنسانية وتمنحها معنىً ونسقاً. حين ينهار النظام الغذائي، ينهار معه النظام الزمني، وتصبح الحياة تعليقاً مستمرّاً بين ماضٍ مفقود ومستقبل مشكوك فيه.
أحد أعمق أبعاد الجوع الأنثروبولوجية أنه يعيد تشكيل الزمن نفسه
تأسيساً على ما سبق، نستدعي تأمّلات جورجيو أغامبين حول مفهوم الحياة العارية (Bare Life)، تلك الحالة التي يُجرَّد فيها الإنسان من كلّ حقوقه السياسية والاجتماعية ويُردّ إلى مجرّد كتلة بيولوجية تحتاج إلى البقاء. الجوع الممنهج (نظرياً) يسعى لإنتاج هذه الحياة العارية، لاختزال الإنسان إلى مجرّد فم جائع يتوسّل الطعام. لكن الأمر الأكثر إثارة للاهتمام أنثروبولوجياً، تطوير المجتمعات المحاصرة آليات عنيدة ومبدعة للحفاظ على كرامتها الإنسانية رغم الجوع. كيف تصمد إرادة البقاء ضدّ شرّ الجوع، هذا ما نلمسه في التجارب المعاصرة عندما يواصل المعلّمون التدريس رغم الجوع، أو عندما يعمل الأطباء في مستشفيات تفتقر إلى الطعام الكافي، أو عندما يصرّ الأطفال على الرسم واللعب والحلم رغم المعاناة الجسدية. هذا إصرار على الحفاظ على الكرامة الإنسانية يتجاوز مجرّد البقاء البيولوجي إلى البقاء الثقافي والمعنوي والروحي.
رغم كلّ محاولات التفكيك والإخضاع، نشهد في هذه السياقات المحاصرة ولادةَ أشكال جديدة ومدهشة من المعنى والتعبير الثقافي. الشعراء يكتبون عن الجوع بلغة تتجاوز الشكوى إلى المقاومة، المصوّرون يوثّقون الصمود بعدسات تُحوّل الألم شهادةً، الأمهات يخترعن حكايات للأطفال عن أزمنة الشبع المنتظرة، والفنّانون يحوّلون بقايا الطعام أعمالاً فنّيةً تحمل رسائل مقاومة. هذا إنتاج ثقافي مقاوم يرفض بعنادٍ السماح للجوع بأن يصبح الكلمة الأخيرة في التجربة الإنسانية.
لعلّ ما نتعلّمه من هذه التجارب المعاصرة، وما تعلّمناه من التجارب التاريخية المشابهة، ليس عن قسوة الجوع فقط تقنيةً سياسيةً للإخضاع، بل عن قدرة الإنسان المذهلة والملهمة على إعادة اختراع المعنى، حتى في أحلك الظروف. الجسد الإنساني، عبر تاريخ طويل من التعلّم والتكيف، يستطيع أن يجد في حبة القمح الواحدة ما وجده أسلافه في خروف كامل، القدرة على الاستمرار، على المقاومة، على رفض الانكسار. هذا الجسد المُتعلِّم يتكيف مع ما يضمن له البقاء والكرامة معاً، وحتى حين يبدو أن الفناء قد اقترب، تبقى بقاياه حيّةً في ذاكرة الأرض سماداً لأشجار الزيتون التي تنمو في تربة الألم، وشواهدَ قبور تحكي للعابرين: هنا كنّا، وهنا لا نزال...
