في استفحال تشتّت المعارضة التونسية
عربي
منذ 5 ساعات
مشاركة

ألغت المعارضة التونسية نهاية الأسبوع الفارط جملةً من التحرّكات المشتركة، التي بُرمجت بمناسبة ذكرى عيد الجمهورية التي توافق 25 يوليو/ تموز، وتتزامن مع الذكرى الرابعة للانقلاب على دستور الثورة 2014، وقاده الرئيس قيس سعيّد. وكان ذلك انتكاسةً أخرى تُضاف إلى كل الإخفاقات التي رافقت أداء المعارضة في التصدّي لهذا المسار الذي وضع حدّاً لتجربة الانتقال الديمقراطي، الذي امتدّ أكثر من عقد. مرّت هذه الذكرى بائسةً ومريرةً في ظلّ استفحال عجز المعارضة التونسية عن إيقاف الخطر الداهم لهذه الشعبوية، التي تكاد تُلغي الإرث السياسي الذي راكمته البلاد منذ قرن من التحديث الذي عرفته رغم انحرافاته العديدة. مساء ذلك اليوم المضني والحارّ، شهد شارع الحبيب بورقيبة تجمّعاً لأنصار سعيّد، لم يكد يتجاوز عدد المشاركين فيه المائة، في حين تجمّعت عائلات المساجين السياسيين للتعبير عن وفائها لتضحياتهم ومؤازرتهم في محنتهم القاسية. باستثناء هذين التجمّعَين لم تسجّل العاصمة أو مدن تونس الداخلية أيَّ تحرّك آخر يذكر. ثمّة ما يشبه التسليم بالأمر الواقع.

انقسمت المعارضة اليسارية التونسية بفعل النزعة الزعاماتية لدى قياداته، والولع بالطهرانية الأيديولوجية، فضلاً عن اختراقات أمنية واستخبارية

منذ إجراءات الرئيس سعيّد في 25 يوليو/ تموز 2021، ظلّت المعارضة التونسية منقسمةً. ساند بعض منها (ولا يزال) الرئيس، وشجّعه على الذهاب بعيداً في قراراته، أمّا بعضها الآخر فقد عارض ما قرّره من إجراءات، واعتبرها انقلاباً على الدستور، والمنجز السياسي منذ استقلال البلاد، على غرار فصل السلطات، وعلوية الدستور، والبناء الإداري المركزي للفكرة البرلمانية. وظلّت تلك التباينات من "25 يوليو" تغذّي كلّ الشروخ التي تجيش في عمق الجسمَين السياسي والمجتمعي التونسي. والحقيقة أن هذا الشرخ لا يعود إلى لحظة الانقلاب ولا إلى الثورة، فقد تكون هذه العوامل أسهمت في هذا الشرخ. إن الأزمة دفينة، وهي تكاد تكون بنيويةً لها جذور عميقة في تاريخ تونس السياسي المعاصر.
نشأت المعارضة التونسية بالمعنى المعاصر للكلمة بُعيدَ الاستقلال تقريباً، وهي معارضة ذات تيّارَين، الأول عروبي والثاني يساري، عارضاً الحزب الدستوري، الذي قاد بشكل منفرد مرحلة النضال الوطني والمفاوضات، وحتى بناء دولة الاستقلال. اختفى التيار الأول من المعارضة تحت وطأة المحاكمات والإعدامات بشكل مبكّر، وظلّ التيار الثاني يتوسّع في أوساط الطلبة والعمال، إلى أن اضطر إلى العمل السرّي خلال أواسط ستينيّات القرن الفارط وسبعينيّاته. تشتّت المعارضة اليسارية بعدها بين فصائل عديدة فاقت الثلاثين أو أكثر، بحسب بعض مؤرّخي اليسار التونسي. يعود هذا الانقسام إلى عدّة عوامل، لعلّ أهمها النزعة الزعاماتية لدى قياداته، الولع بالطهرانية الأيديولوجية، واعتبار الآخرين تحريفيّين، فضلاً عن اختراقات أمنية واستخبارية عديدة دفعت بعضهم إلى الانسلاخ وتسييس كيانات منشقّة هزيلة... إلخ.
يندر أن خاضت هذه المعارضة نضالات موحّدة أو معارك كبرى تحت لافتات جامعة، إلى أن جاءت إلى الساحة السياسية حركة الاتجاه الإسلامي، التي أعادت مجدّداً صياغة الاصطفافات والتحالفات داخل المعارضة، خصوصاً وقد حدث بعض الانفراج السياسي أواخر عقدَي السبعينيّات وبداية الثمانينيّات، ستشهد فيها البلاد بوادر انفراج سياسي مع السماح بصدور صحافة رأي مستقلّ للمرّة الأولى، ونشأت بعض الجمعيات المدنية الحقوقية، التي لا تزال ناشطةً إلى حدّ الآن، على غرار الرابطة التونسية لحقوق الإنسان وجمعية النساء الديمقراطيات... إلخ. ستختار المعارضة السياسية، ومعها هذا الطيف من المجتمع المدني، أن تصطفّ في كثير من الأحيان وراء النظام (الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي لاحقاً)، باعتباره يقود مشروعاً علمانياً حداثياً، وإن اختلفت معه في مسألة الحرية والحقوق. كان العدو الاستراتيجي هو الحركة الإسلامية، وقلّما اتُّفق معها في خوض معارك سياسية مع النظام الحاكم آنذاك، تحت لافتة تكتيكات ظرفية تمليها الضرورة. في الحالات التي تعرّضت فيها حركة النهضة إلى ملاحقات، وإيقافات ومحاكمات، وانتهاكات خطيرة وصلت حدّ القتل تحت التعذيب، اكتفت هذه المعارضة اليسارية بالنظر إلى تلك التجاوزات باعتبارها مسألةً حقوقيةً لا غير، تستحقّ الإدانة. حتى إن العفو التشريعي العام لم يكن مطلباً موحّداً للمعارضة السياسة اليسارية قبيل رحيل بن علي، فهذا المطلب لم يحظَ بالقبول.

قول فرقاء إن نظام سعيّد قويٌّ بضعف المعارضة وتشتّتها، ولكن لا يفعلون شيئاً

رحل النظام ولم تسجّل الساحة السياسية أيَّ تقارب ذي دلالة مع حركة 18 أكتوبر (أُسّست في 2005)، التي شكّلت حالةً استثنائيةً فارقةً في تاريخ المعارضة السياسية بتونس، ورغم أنها فترت قبيل الثورة، لاعتبارات عددية، بعضها يعود إلى النزعة الزعاماتية، إلا أن قيام الثورة قد سارع باضمحلالها، وفوّتت البلاد على نفسها فرصة تجاوز الشرخ النصفي، الذي لم يقسم المعارضة السياسية فحسب، بل المجتمعَين السياسي والمدني، وحتى البلاد برمّتها، وتحوّلت "النهضة" (الحركة الإسلامية) محور معارضة الطيف الواسع من اليسار والعروبيين. كان الناس ينتظرون أن تلين المعارضة تجاه حركة النهضة، التي صعدت إلى الحكم من طريق صناديق الاقتراع، وحتى الذين صاغوا وثيقة 18 أكتوبر، التي جمعت الإسلاميين والعلمانيين، عدّها بعضهم خطأً لا يغتفر.
يقول هؤلاء الفرقاء إن نظام سعيّد قويٌّ بضعف المعارضة وتشتّتها، ولكن لا يفعلون شيئاً من أجل تغيير المعادلة، بل يسارعون بين حين وآخر إلى إسناده بكلّ معاركهم الصغيرة تلك.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية