
إذا كان مغني فرقة الهيفي ميتال البريطانية "بلاك ساباث"، أوزي أوزبورن، قد عُرف بلقب ملك الظلام، فإنّ مواطنه، قائد الأوركسترا روجر نورينغتون يمكن أن يُنظر إليه على أنه ملك النور. ليس لاقتران رمزية النور والظلام ههنا بثنائية الخير والشر، وإنما للدلالة على الهوّة الشاسعة إزاء الدور الذي لعبه كلٌّ منهما في الحياة الفنية والثقافية الإنكليزية، والغربية الشمالية عموماً.
شاءت الأقدار أن يرحل العَلمانِ الموسيقيّان البارزان خلال أسبوعٍ واحد من شهر يوليو/تموز الحالي (نورينغتون في 18 وأوزبزرن في 22)، ما يسدل ستاراً رمزياً على حقبة فنيّة حافلة بالخلق والابتكار.
من خلال منشورٍ على منصة فيسبوك، قدّمت إدارة قاعة The Bridgewater للحفلات في مدينة مانشستر البريطانية نعياً مشتركاً، صاغته على النحو الآتي، مرفقاً بصورتيهما: "ودّعت دنيا الموسيقى هذا الأسبوع اثنين خارقين للعادة، ومختلفين إلى حدٍّ خارقٍ للعادة؛ أحدهما غيّر شكل الموسيقى الكلاسيكية، والآخر أعاد تعريف الروك أند رول".
مع ذلك، يؤكّد التعليق ضمنياً صفة الرياديّة التي اشترك فيها روجر نورينغتون وأوزبورن، علاوةً على أهمية حضورهما في المشهد الفني البريطاني، إذ مارس كلٌّ منهما دوراً قابل الآخر، حدّدت طبيعته تلك الجدلية المجتمعية، أو ما يمكن تسميته بـ"الكونتربوان الاجتماعي الثقافي" (Counterpoint)، باستعارة مصطلح موسيقي، التي سادت في أوروبا الغربية وأميركا بعد الحربين العالميتين، ما بين تيارٍ محافظٍ من جهة، وآخرَ تقدّميٍّ من جهة مقابلة.
يمكن الإضافة أنّ كلا الرياديَّين قد اعتمد نهجاً راديكاليّاً إزاء التقليديّ السائد داخل كلٍّ من التيارين المتقابلين اللذين تصدّراهما، ما جعلهما مصدرَ إلهامٍ و"صنّاع صيحات" (Trend Makers). فبينما غيّر أوزبورن من شكل ومضمون الهارد روك الوافد من الولايات المتحدة، ليغدو أكثر قتامةً وخشونةً وتحميلاً بالمضامين السياسية الرافضة للمؤسسات الراهنة، أي ما يُعرف بخطاب "الثقافة المضادّة" (Counter Culture)، عمد روجر نورينغتون إلى إحداث ردّة صفائية (Puritanism) في ميدان الموسيقى الكلاسيكية، عبر ابتكار مقارباتٍ تأويليّة تاريخيّة في الأداء تُحاكي ما يُعتقَد أنّها الأساليب التي نُفِّذت بها الأعمال الكلاسيكية في زمنها.
بفضل شراكته مع أعضاء فرقته "بلاك ساباث"، أحدث أوزي أوزبورن تغييراً جذريّاً في طبيعة الصوت الصادر عن الغيتار الكهربائي وطبول الدرامز، من خلال زيادة وقعه الدرامي الثقيل، حتى بات ينقل شحنة شعوريّة سوداويّة ومحفّزة في آنٍ. أما غناؤه، فلم يقتصر على الصراخ الصبياني الذي كان رائجاً بين مؤدّي هذا اللون الموسيقي، بل أضفى عليه عُمقاً أوبراليّاً، جمع بين الكياسة الأدائيّة من جهة، والعويل ذي الوظيفة المسرحية من جهة أخرى، فأخذ يدوي كنذيرِ شؤمٍ آتٍ من ظلماءٍ سحيقة، يُرعب الأسماع، يحرّض الأذهان، ويحرّك الأبدان.
ظهر السبق الأسلوبي للفرقة مبكراً، عبر التراك الأوّل من إصدارها الأوّل عام 1970، الذي حمل اسمها Black Sabbath، وهو عنوان مقتبس من فيلم رعب يعود إلى عام 1963. وكأنّ التراك قد قُدّم بوصفه بياناً فنيّاً (مانيفستو)، يُعلن من خلاله عن توجّهٍ جديد في موسيقى الروك أند رول.
تُستهلّ الأغنية بمشهد صوتيّ ذي طابع سينمائي، يوحي بليلٍ حالكٍ تتخلّله زخّات مطرٍ وكنيسةٌ تدقّ أجراسها من بعيد. على إيقاع هذا المشهد، ومع ضرباتٍ ثقيلة وعنيفة على الدرامز، يندلع صوت الغيتار الكهربائي كالرعد، مؤدّياً ريفس (Riffs) بطيئاً مكوّناً من ثلاث نغمات داكنة ومنقبضة، تُعرف اصطلاحاً بـ"ثلاثية الموت" (Tritone of Death).
يدخل أوزي أوزبورن على الخطّ في الدقيقة 01:25، بصوتٍ صادر عن الحنجرة، يشوبه نشازٌ يُضاعف من توتّره التعبيري، مؤدّياً جملاً لحنيّة تستند بدورها إلى "ثلاثيّة الموت"، يصف من خلالها، بصيغة المتكلّم، شبحاً أسودَ يلوح أمامه، يُشير إليه، ويأمره بالهرب. فور تيقّنه بأنّ عليه قد وقعَ حُكم الضحيّة، يُطلق صرخة ذُعرٍ مدويّة، تنفصل عن المقطع السردي كقنطرة، تعيد الأغنية إلى لازمتها الموسيقية.
للوهلة الأولى، قد يبدو أن مجهود روجر نورينغتون الموسيقي، بخلاف أوزي أوزبورن، لم يكن يهدف إلى إحداث الجديد، بل إلى إحياء القديم. وفضلاً عن أنّ النطاق التعبيري الذي نشط ضمنه (الموسيقى الكلاسيكية الغربي)، كان يمثّل الذائقة المحافظة، والشريحة الأكبر سنّاً في المجتمعات الغربية؛ إذ دعا روجر نورينغتون إلى نبذ الأساليب الأدائيّة الشائعة منذ أواخر القرن التاسع عشر، تلك المنبثقة عن قيم الفرديّة الرومانسيّة، والسعي إلى استعادة نقاء الموسيقى كما كانت تُؤدّى في عصر النهضة والحقبة الكلاسيكيّة. تعويضاً عن غياب التوثيق الصوتي قبل اختراع الحاكي والمسجلة، عمل على إنشاء منهجية للتأويل والأداء، تستند إلى بحث موسيقولوجيّ معمّق في نصوص قديمة تضمّنت شروحاً نظريّة لطرق العزف في القرون الماضية.
من خلال الإرشادات الأدائيّة التي قدّمها لأوركسترا ولاية شتوتغارت السمفونية، التي تعاون مع أعضائها لسنواتٍ في سبيل بلورة نهجه النقائويّ الجديد، دعا روجر نورينغتون عازفي الآلات الوترية من كمان، وفيولا، وتشيلو وكونترباص، إلى التخلّي عن تقنية الترجيف (Vibrato)، أي هزّ المعصم القابض على الأوتار لتمويج الصوت الصادر عنها، معتبراً إيّاها بدعة دخيلة على تقاليد الأداء القديمة. يتجلّى هذا النهج في تسجيلٍ حيٍّ لسمفونية لودفيغ فان بيتهوفن الثالثة، المعروفة بـ"البطوليّة" (Eroica)، أُنجز عام 2018 في قاعة Liederhalle بمدينة شتوتغارت.
المفارقة أنّ الأصوليّة التي بشّر بها روجر نورينغتون قد أنعشت الموسيقى الكلاسيكية، التي كانت قد تحوّلت إلى ما يشبه مؤسسةً فنيّة محافظة، أصابها التكلّس والتحجّر، بحكم أنّها فنّ يُؤوَّل من خلال نصوص مكتوبة، ويخضع لتقاليد ومعايير صارمة. ومن هنا، فإنّ الصوت الناتج عن تجريده من الترجيف بدا في آذان المستمعين بمثابة صيحةٍ جديدة، جذّابة ومثيرة. بذلك، غدا يُنظر إلى الأصوليّة ليس بوصفها استعادةً للماضي، بل استشرافاً للمستقبل.

أخبار ذات صلة.
