هديل محمود.. طالبة إعلام في تعز خطفت الحرب ذراعيها ولم تكسر قلمها (قصة صحفية)
أهلي
منذ ساعتين
مشاركة

أعد القصة لـ”يمن ديلي نيوز” محمد القادري: في زاوية صغيرة من قاعة الدرس، لا يجذبك صوت، ولا تسرقك حركة، هناك تجلس فتاة بهدوء تام، كأنها لا تريد من العالم شيئًا سوى أن يمر خفيفًا، بلا ضجيج. لكنها، دون أن تتكلم، تقول كل شيء.

تلمع عيناها كأنهما بقايا نجمتين ظلتا تتحديان عتمة الحرب، وتُمسك قلمًا ليس بأصابع، بل بعضدين وذقنٍ اعتادت أن تحنيها لا خضوعًا، بل شموخًا.

اسمها هديل محمود. وحدها تعرف كم مرة سقطت لتنهض، وكم مرة سألها الناس: لماذا لم تموتي؟ وحدها ترد: “أنا لم أمت، كتبت اسمي من جديد”.

قبل جلوس هديل في قاعة الدرس، وفي لحظة يفترض أن تنتهي فيها الحكايات تبدأ قصتها، لا صوت، لا حيلة، لا أطراف، لا شيء سوى سؤال فاجع: “كيف سأكتب؟ كيف سيكون مستقبلي؟”.

منذ سبع سنوات فقدت هديل ذراعيها بقذيفة أطلقتها جماعة الحوثي المصنفة إرهابية، لكنها رفضت أن تفقد حقها في الحلم، في التعليم، في الكرامة، في الأمل.

من هناك، من نقطة الألم الأكثر قسوة، عادت هديل تمشي على خيط الألم بإصرار لا يُشبه إلا الكبار، لا تكتب الآن بيديها، لكنها تكتب بعضدها، بذقنها، بقلبها، بعزيمتها التي لا تلين، وقصتها باتت اليوم أيقونة للأمل في بلدٍ علق الحياة على حبال الحرب.

لحظة واحدة فقط

في الرابع من يوليو/تموز 2017، كانت هديل طفلة تعيش في قريتها الصغيرة الواقعة على منحدر تل في مديرية جبل حبشي غرب مدينة تعز، تقاسم الحكايات البسيطة مع أقرانها، وتبحث عن ظلٍ تحت شجرة أو بسمة في وجه أمها، لم تكن تعرف شيئًا عن الحرب سوى ما ترويه الأخبار، قبل أن تدخل الحرب إلى جسدها مباشرة.

قذيفة للحوثيين، هبطت على عالمها الصغير تاركة خلفها طفلة بلا ذراعين، مضرجة بالدم، تصارع للبقاء، أغمي عليها لتبدأ رحلة الألم من لحظة حملها من قبل خالها إلى مستشفى البريهي في مدينة تعز.

عندما استيقظت هديل

“استيقظتُ الساعة 3 فجرًا أطلب ماءً، لم يجبني أحد. كنت أبكي وأنادي: يا أمي، إني عطشى. لم أكن أعرف أين أنا، ولا أستطيع أن أرى نفسي. فقط الظلمة، والبكاء، ولا إجابة”، هكذا تصف هديل أولى لحظات وعيها بعد الحادثة.

عندما خرجت من العناية المركزة في اليوم التالي، نظرت إلى خالها وأمها وهما يبكيان، فسألت بصوت مخنوق: “كيف سأكتب؟ كيف سيكون مستقبلي؟”

لم يجبها أحد، كان السؤال أكبر من كل الكلمات، لكن أُمها وخالها حملا عنها تلك الإجابة بصمتٍ مليء بالحياة، تقول لـ “يمن ديلي نيوز”: “ما خلوني أفقد ثقتي ولا إيماني، دعموني معنويًا وماديًا وكانوا سندي الأول”.

أربعون يومًا من العلاج والجرح كان يتسع أكثر داخلها كلما نظرت إلى مكان ذراعيها ولم تجدهما، كانت والدتها ملاكها الحارس لا تتركها لحظة، تواسيها وتزرع الأمل في عينيها كل صباح.

كتب لي البقاء

كان أول ما شعرت به هديل ليس فقدان اليدين، بل فقدان ما هو أكبر، الكرامة ،الحركة، الرفقة ، التفاصيل الصغيرة التي تبني يوم الإنسان، تصف تلك الأيام بالقول: “أكثر شيء كان يؤلمني هو الألم النفسي، كيف ستكون حياتي؟ من سيجلس معي؟ كيف سأعيش بين الناس؟”.

رفضت الانعزال لكنها لم تستطع إنكار الوجع، تقول: “كنت أتساءل كيف سأواجه الأطفال أصدقائي وأنا بدون أطراف!”، لم تكن المقاومة داخلها في البداية، لكنها كانت في عيني أمها، في ذراع خالها، في الكلمات التي لم تُقال، لكنها قالت لها: “نحن معكِ”.

كان كل شيء صعبًا حتى شرب الماء، لكنها في لحظة تحدٍ داخلي قررت أن تكف عن البكاء وأن تجيب عن هذه الأسئلة بطريقتها، أمسكت كوب الماء بذراعيها وابتسمت حين شربت منه، ثم قالت: “الحمد لله الذي ساعدني”، كانت تلك لحظة الولادة الجديدة لهديل.

عادت إلى المدرسة لا كما كانت ،بل أقوى، تراقب زميلاتها يكتبن بينما هي لا تستطيع أن تحمل القلم، حاولت أن تمسكه بقدمها ففشلت، جربت مرارًا حتى استطاعت ذات يوم أن تُمسك القلم بذراعيها وذقنها وتكتب أولى الحروف.

نجحت، فرحت، بكت من جديد، لكنها هذه المرة كانت دموع انتصار صغير في معركة طويلة.
لم يكن القلم حينها أداةً فحسب، بل سلاحًا في وجه الانكسار، بدأت بكتابة الحروف الثقيلة جدًا ووجدت الدعم في المدرسة: “كانوا المدرسين يعطوني وقت إضافي وزملائي يشجعوني”.

استخدمت الفتاة أدوات بسيطة لم تُصمم لمثل حالتها لكنها صنعت منها طريقًا ، قائلًة: “ما احتجت أدوات خاصة استخدمت القلم والدفاتر فقط”.

قلم هديل الذي لا يمسكه أحد بات أداة حياة، وقصة نهوضٍ لا تُروى بسهولة.

شاشة الأمل تفتح

بعد أن تخرجت من الثانوية العامة بمعدل 95.5% ، اختارت هديل دراسة الحاسوب، ضحك البعض وسخر البعض الآخر، لكن الأهم أنها لم تسمح لهم أن يضحكوا على أحلامها.

“قالوا لي الحاسوب يحتاج عشر أصابع، لكن قلت لهم بحاول ماراح أرجع”، هكذا تروي تلك اللحظة ، واجهت صعوبة في الضغط على مفاتيح اللوحة فاقترحت لها أستاذتها استخدام لوحة افتراضية على الشاشة ونجحت.

في النهاية حصدت 99%، بالرخصة الدولية لقيادة الحاسوب، ليس فقط في النتيجة بل في إقناع الجميع أن المستحيل كلمة تافهة حين تصطدم بهديل.

اليوم تدرس الفتاة في قسم الإعلام وعلوم الاتصال بجامعة تعز، وتراه حقلها الذي ستزرع فيه تجربتها، تحلم أن تكون كاتبة وناشطة.

تقول لـ “يمن ديلي نيوز”: “أريد أن أغيّر السلوكيات السلبية خاصة تجاه النساء، لازم البنت تأخذ حقها في الورث، في اختيار الزوج، في كل شيء”.

تحلم بأن تُصبح صوتًا لكل من لا صوت له، وتؤمن أن المايكروفون حين يكون نزيهًا، يكون أقوى من كل القذائف.

الحرب لم تكسرني

تقول هديل إن الحرب سرقت منها طفولتها، أطرافها، ألعابها، دفاترها، لكن لم تسرق شغفها: “الحرب قتلت طفولتي قبل أن تكبر، لكنها ما قدرت تقتلني”.

ولمن فقدوا أطرافهم مثلها تهدي رسالة واضحة: “لا حياة مع اليأس كن قويًا، قلبك ينبض وحلمك ما مات، فقط أنت من تقرر هل تنهض أم تبقى”.

وفي أيامها الحالية تدرس هديل وتذاكر، تخرج أحيانًا للمشي، وتقرأ في أيام الإجازة، تقول لـ “يمن ديلي نيوز”: “في البداية كانت كل نظرة من الناس تؤلمني، بس اليوم اعتبرتها محفز وقررت أعيش حياتي وحدي”.

تفكر أن تحوّل قصتها إلى فيلم، لكنها تؤجله حتى تتخرج، تريد أن يكون الفيلم رسالة لمن يتخلون عن أحلامهم وهم بكامل صحتهم.

أما هديل اليوم، فمن تكون؟ تجيب ببضع كلمات فقط: “أنا هديل التي واصلت تعليمها رغم كل شيء، رغم الواقع المؤلم فليتعلم مني من تخلى عن حلمه”.

ختامًا: حين تقرأ قصة هديل لا ترى المأساة بل الشجاعة، لا تقرأ عن فتاة بلا يدين، بل عن كاتبة تُمسك بقلمها من الروح .. الحرب أرادت أن تقتلها لكنها نهضت وكتبت.

ظهرت المقالة هديل محمود.. طالبة إعلام في تعز خطفت الحرب ذراعيها ولم تكسر قلمها (قصة صحفية) أولاً على يمن ديلي نيوز Yemen Daily News.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية