
جيهان نصري
في ميناء الصيد البحري بالمحرس بمحافظة صفاقس جنوب تونس، يُنزِل عادل الشّباك ومُعدّات الصّيد من القارب بعد أن تعذّر عليه، للمرة الثانية، دخول البحر خلال عشرة أيام بسبب التقلّبات الجوية .
بَدَتْ على وجه عادل علامات العجز والحيرة، وهو يفكر في تأمين مستلزمات هذا الشّهر لعائلته، خاصة وأن قوت أسرته يعتمد على عائدات الكميات القليلة من السمك التي يصطادها.
عادل، ربّ أسرة وأب لثلاثة أبناء، ويعمل على قارب صيد تقليدي.
يتوجه عادل إلى الصيد لمدة ثلاثة او أربعة أيام، ويرتاح بعدها أسبوعاً أو أسبوعين، حسب ما تفرضه حالة الطقس التي باتت تؤثر في قوت أبنائه.
عادل ليس الوحيد الذي يخشى ركوب البحر عندما تنذر الأجواء بحدوث تقلبات جوية؛ الصيادون في تونس يدركون خطورة التغيرات الجوية والأعاصير على حياتهم.
لا تقتصر الصعوبات على التقلبات الجوية التي تؤثر في محصول الصيادين وحسب؛ فهناك مراكب صيد غير قانونية، أو ما يعرف بـ “الصيد بالكيس” في المناطق الساحلية، تُقوض البيئة البحرية وتحرم بقية الصيادين من الحصول على إنتاج جيد عندما يسمح لهم البحر بركوبه.
التغيرات المناخية والتقلبات الجوية
في خريف عام 2020، انطلق عشرة صيادين من تونس في رحلة صيد، طامعين في العودة بقوت أسرهم. لم يكونوا على علم بأنها ستكون الرحلة الأخيرة لعدد منهم.
وبحلول الفجر، ضربت المركب عاصفة قوية تسبّبت في غرقه، بعد أن وصل إلى نقطة تبعد 20 ميلاً عن أحد المواني. تمكن ثلاثة فقط من النجاة بعد إنقاذهم، فيما فُقد السبعة الباقون.
لم تكن هذه الحادثة الوحيدة لغرق مركب صيد بسبب التغيرات الجوية في المياه التونسية؛ حيث ترتفع درجات الحرارة في البحر المتوسط على نحو غير مسبوق. وتُعزز موجات الحر البحرية قوة ظواهر أخرى، مثل الأعاصير المتوسطية، من خلال زيادة درجات حرارة سطح البحر؛ ما يغذي هذه العواصف.
في عام 2023، ضرب إعصار دانييل -الأعنف في سجل الأعاصير المتوسطية- سواحل ليبيا واليونان. كانت ليبيا الأكثر تضررًا إذ نتج عن ذلك مقتل نحو ستة آلاف شخص، وتشريد عشرات الآلاف.
يُعدّ حوض البحر الأبيض المتوسط أحد أبرز “النقاط الساخنة” في مجال التغير المناخي. وبحسب الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، فإن منطقة البحر الأبيض المتوسط معرضة بشكل رئيسي لتأثيرات الاحتباس الحراري، ولا سيما موجات الحر الطويلة والقوية، وزيادة الجفاف في مناخ جاف أصلاً، و خطر الفيضانات الساحلية.
يرتفع معدل الوفيات في قطاع الصيد مقارنة بقطاعات أخرى. ويهدد الطقس السيئ، الذي يستمر 100 يوم خلال العام، العمل بشكل خاص في شمال تونس، ما يؤثر سلباً في موسم الصيد، وفق دراسة أجرتها منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة.
استنزاف المخزون البحري
في ورشة لإصلاح مراكب الصيد وصيانتها بتَبَرورة، الواقعة بالقرب من ميناء سيدي منصور بمحافظة صفاقس التونسية، التقينا صياداً يُعرف في المنطقة بـ “العم علي”، الذي امتهن الصيد منذ أكثر من ستة عقود.
يتذكر العم علي، الذي ترك مهنة الصيد بعد أن تقدمت به السن، أحوال البحر وتقلباته. يقول : “في حال هيجان البحر، لا يجد البحار قوت يومه، ولا يجد ثمن شراء ضروريات الحياة لأبنائه”.
لا تؤثر التغيرات الجوية وحدها في قوت الصيادين؛ إذ تأثرت قدرة السكان على التكيف مع التغير المناخي بسبب ما يعرف بالصيد بالكيس، الذي يتسبّب بإطلاق كميات كبيرة من مادة الكربون من قاع البحر إلى السطح، ما قد يؤدي إلى زيادة حموضة المياه، ومن ثم تآكل الشواطئ وخفض جودة المياه، وسرقة “أرزاق الصيادين” التي لا يمكن تعويضها، بحسب تقرير لصندوق عدالة البيئة نشر عام 2023 .
نجيب بن حسن (34 عاماً) امتهن الصّيد منذ كان على مقاعد الدراسة. وَرث هذه المهنة عن والده وجدِّه، ووَاصَل فيها بعد انقطاعه عن التّعليم.
يوضح نجيب سبب اختفاء بعض أنواع الأسماك في الوقت الراهن. يقول: “أنواع عديدة من الأسماك، التي كنا نصطادها، يمكن ان تكون قد هاجرت، لأن الأماكن الملائمة للمرعى أو المبيض أصبحت غير موجودة “.
يؤكد نجيب أنهم كانوا في السابق يصطادون عدة أنواع من الأسماك حسب المواسم. فعلى سبيل المثال، كانوا يصطادون الأسماك البيضاء في موسم الصيف، والملو والشوابي والقاروص والوراطة في فصل الخريف، أما في فصل الربيع فكانوا يصطادون الأخطبوط.
صيد غير قانوني
خلال العقد الماضي، انتشرت مراكب الصيد بالكيس، العاملة بالمناطق الضحلة القريبة من الشاطئ. اجتذب هذا النوع من الصيد صيادين جدد، بسبب “أرباحه الأعلى”.
يقول نجيب إن الصيد بالكيس انتشر بعد عام 2011، مع تراجع مردود الصيد التقليدي؛ الأمر الذي دفعه إلى التحول من الصّيد بالشِّباك أو ما يُعرف محلّيا بـ “الصيد بالغْزَلْ”، إلى عامل على أحد مراكب الصيد بالكيس.
تجرف مراكب الصيد بالكيس جميع الأسماك الموجودة في قاع البحر، كما لا تنجو منها معدات الصيادين أيضاً؛ لأن الصيد بالكيس يمزق أيضاً شباك مراكب الصيد التقليدية، وهو سبب آخر لتراجع إنتاج الصيد التقليدي.
تزايدت أعداد مراكب الصيد بالكيس، أو ما يعرف بالصيد بالجر، بشكل واضح في السنوات الماضية. فعلى سبيل المثال، سجلت منطقة صفاقس زيادة في عدد تلك المراكب تبلغ 38.5 في المئة في العام 2022 مقارنة مع العام 2018
تُسمى عملية “الصيد بالكيس” بهذا الاسم لاستخدام السفن شباكاً على شكل أكياس في أنشطة الصيد. يتم من خلالها تجريف قاع المحيط بشباك مزودة بأثقال أو هياكل صلبة على طول القاع، وهو أكثر أشكال الصيد غير الانتقائية وأكثرها تدميراً.
تقول منظمة “فيش آكت”، الناشطة في الحفاظ على المحيطات إن هناك ثغرات قانونية في لائحة الصيد التونسية (القانون رقم 94-13، الصادر في 31 يناير 1994) التي تُسهّل صيد أسماك “كيْس” بشباك الجر والاتجار بالأسماك التي تصطادها، كما تُعيق جهود الإنفاذ.. موضحة أن عدم دقة القرار الوزاري فـي تحديـد المعدات التي يستلزمها هذا النشاط، يعوق تنفيذه.
كذلك تحظر المادة 27 (5) من قرار 1995 اسـتخدام معدات شـباك الجر القاعية، في أعماق تقل عن 50 متراً في خليج قابس، ويستثنى من ذلك صيد الجمبري في مواسم محددة. وعلى المستوى الإقليمي، تحظر المفوضية العامة لمصايد الأسماك في البحر الأبيض المتوسط الصيد بشباك الجر بقاع البحر، من الشاطئ إلى عمق 200 متر في خليج قابس، في فترات الراحة البيولوجية الممتدة من تموز/يوليو وحتى نهاية أيلول/سبتمبر.
الصيد بالكيس يهدد “الغابات البحرية”
يقول الخبير البيئي، حمدي حشاد، إن منطقة خليج قابس تُعدّ من أكبر بيئات أعشاب البوسيدونيا أو الضريع؛ وهي بمثابة حاضنة ليرقات الأسماك وأغلب الكائنات البحرية، وتمثل مصدراً للتنوع الحيوي.
وبحسب حشاد، يترافق وجود تلك الأعشاب مع العديد من الكائنات الحية الأخرى. وتسهم البوسيدونيا في إنتاج الأكسيجين بالبحر، حيث تنتج مساحة المتر مربع الواحد منها نحو 12 لتراً من الأكسيجين.
يقع خليج قابس شرقي البلاد، ضمن المياه الإقليمية التونسية. إلى الجنوب الشرقي منه تقع جزيرة جربة، في حين تقع جزيرة قرقنة في الناحية الشمالية الشرقية. ويوجد بالخليج ثالث أكبر أسطول لسفن الصيد العاملـة فـي البحر الأبيض المتوسـط.
يشكل خليج قابس موطناً بحرياً فريداً من نوعه، بسبب مروج الأعشاب البحرية الضخمة الأكبر في البحر الأبيض المتوسط، والمعروفة علمياً باسم “بوسيدونيا أوسينيكا” أو أعشاب الضريع، حيث يعيش في مروجها أكثر من 650 نوعاً من الحيوانات البحرية، والعديد من الأنواع المهاجرة، بعضها مدرج في قائمة الاتحاد الدولي لحماية الطبيعة IUCN للأنواع المهددة بالانقراض.
تتجاوز القيمة النقدية للهكتار الواحد من تلك الأعشاب قيمة غابات الأمازون والشعاب المرجانية بكثير، ولا تقتصر أهميتها على الحفاظ على التنوع البيئي؛ فهي أيضاً تعمل على احتجاز الكربون وحماية السواحل من التآكل.
قاومت أعشاب الضريع البحري العوامل المناخية المتطرفة عبر ملايين السنين، إلا أنها تواجه حالياً تهديدات كبيرة.
تهدد مراكب الصيد بالكيس حياة أعشاب بوسيدونيا، أو الضريع البحري، المحمية بموجب اتفاقية حماية البيئة البحرية والمنطقة الساحلية للبحر المتوسط (اتفاقية برشلونة). وتعتمد عدة أنواع من الأسماك على ما تشكله تلك الأعشاب من حقول خضراء تحت الماء، كمناطق للحصول على الغذاء، ومناطق للتكاثر ووضع البيض و إخفاء الصغار، وفق الصندوق العالمي للطبيعة.
يبلغ عدد مراكب الصيد المرخصة في تونس 14 ألف مركب. تشكل مراكب الصيد التقليدي الغالبية العظمى منها، 92 في المئة، و تتركز تقريبا في كل المحافظات الساحلية مثل صفاقس، قابس، مدنين المهدية، المنستير نابل، تونس وبنزرت، حسب ما أفاد به، علي الشيخ السبوعي، المدير العام لإدارة الصيد البحري وتربية الأسماك بوزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري.
في العام 2024، أنتجت تونس 138 ألف طن من السمك، منها ما يزيد عن 37 ألف طن تم تصديرها مقابل 845 مليون دينار تونسي. بلغ نصيب قطاع تربية الأسماك منها حوالي 200 مليون دينار تونسي، وفق السبوعي.
أضرار كبيرة
يقول السبوعي، المدير العام لإدارة الصيد البحري وتربية الأسماك، إنه تم تسجيل 2300 مخالفة في العام 2024 مقارنة مع 1300 مخالفة في العام 2022، ضمن قطاع الصيد البحري. ما يدل على وجود جهد كبير في متابعة عملية الصيد، من وجهة نظره.
وحسب السبوعي فإن ظاهرة الصيد بالكيس تتسبب بأضرار في ثلاثة مستويات أولها استنزاف الثروة السمكية والإضرار بالبيئة البحرية وتصحّر البحر. وثانياً الإضرار بممتلكات الغير وإتلاف معدّات صيد البحّارة التقليديين ما أدى الى عزوف الشباب عن تجهيز مراكبهم والعمل في هذا المجال.
أما المستوى الثالث والأهم، حسب مدير عام الصيد البحري وتربية الأسماك، فهو الإضرار بسمعة البلاد التي كانت جيدة في المستوى الدولي في الصيد الرّشيد. موضحًا أن تونس باتت تتلقى إنذارات من الاتحاد الأوروبي، الشريك الأول لها، بسبب الصيد بالكيس والصيد العشوائي، ما قد يلحق الضرر بقطاع الصادرات ومستقبل تونس خاصة على قطاع الصيد البحري الذي يعتبر ثاني مورّد مدرّ للعملة الصعبة بعد قطاع زيت الزيتون، وفق ما أوضح.
وحول السياسة المعتمدة للتصدي للصيد العشوائي قال المدير العام للصيد البحري إنها تتمثل في المراقبة البحرية التي نجحت في حجز 100 مركب ورفعهم الى اليابسة منذ شهر آب/ اغسطس 2023 وحتى شهر أيار/ مايو 2025، مع القيام بعمليات مراقبة للمنتجات البحريّة المُنزَّلة ومُعدّات الصّيد، إضافة الى مراقبة مسالك التوزيع سواء كان في الأسواق التجارية الكبرى ومحلات البيع الخاصة وحجز المنتجات التي تكون دون وثائق.
أما ما يتعلق بالجهد الرقابي فأوضح السبوعي أنه تم انتداب 69 عون حرس صيد بحري في العام 2018 وجرى تدريبهم، وهم بصدد العمل على مستوى الموانئ للتصدي للصيد العشوائي. ومع ذلك يقر السبوعي بأن عدد الأعوان ما يزال ضعيفا، حيث يتوزع 140 عون حرس صيد بحري على 1300 كيلومتر، وهو ما جعل وزارة الإشراف تفكّر في انتدابات جديدة للمراقبين.
كما تم اقتناء خافرتين سريعتين بطول 10 متر في العام 2019، إلا أنهما الآن في حالة عطب في انتظار إيجاد قطع الغيار لهما للعودة إلى العمل، مع اقتناء خافرَتيْن للمراقبة بطول 27 متر، في إطار اتفاقية تعاون تونسي ياباني، سيدخلان العمل الميداني قريبا، وفق السبوعي.
وحسب السبوعي فإنه يُرصد 2 مليون دينار تونسي كل عام لإنجاز وإغراق أرصفة اصطناعية في مناطق ذات أعماق قصيرة يتم فيها الصيد بالكيس. بلغت نسبة الإنجاز في هذا المشروع، المُنفذ بالشراكة مع الجانب البلجيكي، 55 بالمائة تقريباً، وفق ما أشار.
وأكد السبوعي أنه تم منع الحصول على رخص صنع مراكب موجهة للصيد بالكيس، وتحديد سقف تكبير مراكب الصيد الساحلي حتى لا تكون في مقاسات تسمح لها بالصيد غير القانوني. إذ تتخفى العديد من المراكب التي يبلغ طولها 16 متراً وراء رخص الصيد الساحلي وتحمل معدّات الصيد بالكيس. كما تم تجهيز المراكب التي يفوق طولها 15 متراً بجهاز تتبع بالأقمار الصناعية لتتبع مسار الرّحلة البحرية وأماكن الصيد، حسب ما أوضح.
كما أشار إلى تنفيذ إجراءات لمساعدة بحارة الصيد التقليدي مثل تخصيص منح دعم المحروقات بقيمة تتراوح بين 40 و 50 في المئة.
مستقبل مجهول
معز عمار، صياد يبلغ من العمر 43 سنة ويملك مركباً صغيراً. لم يتمكن معز من الزواج بسبب ظروفه الاقتصادية الصعبة .
يُقارنُ معز بحسرة بين الوضع الراهن وما كان عليه الحال قبل أكثر من عقد من الزمن، متحدثاً عمّا وصفه بالخيرات التي كانت على الشواطئ، في إشارة إلى وفرة مختلف أنواع الأسماك.
يقول معز عمار: “كان الأخطبوط غذاء البسطاء. ينطلق موسم صيده بداية من شهر تشرين الثاني/نوفمبر إلى غاية شهر آذار/مارس، ورغم الدَّخل القليل فإن الأموال كانت كافية لشراء الحاجيات الأساسية ولا يبقى أحد للجوع أما اليوم حتى ميسور الحال لا يستطيع توفيره بسبب الفساد والصيد بالكيس الذي تسبب في تحويل البحر الى صحراء قاحلة ” .
يضيف معز: “الآن حتى ميسوري الحال لا يستطيعون توفيره، بسبب الصيد العشوائي والكيس الممنوع، الذي حول البحر إلى صحراء قاحلة”. ويتابع القول باستهزاء: “الآن من يصطاد أخطبوطاً يلتقط معه صورة للذكرى… “.
أنجز هذا التقرير بدعم من أريج
ظهرت المقالة التغيرات المناخية تفاقم معاناة الصيادين في تونسومراكب "الكيس" تسرق أرزاقهم أولاً على إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (أريج).
أخبار ذات صلة.
