
يكشف التحقيق عن تعاط للمخدرات بين الفئة المعنية بمكافحتها في العراق، إذ تورط رجال أمن في الإدمان والاتجار، ما دفع وزارة الداخلية إلى إخضاع عينات من منتسبيها لحملات فحص عشوائية، محيلة المتورطين إلى مصحات قسرية.
- عاش الشرطي العراقي محمد وجيه في قلق دائم، خوفا من أن يقع عليه الاختيار للخضوع لفحص تعاطي المواد المخدرة الذي يتم بشكل عشوائي ودون ترتيب مسبق وبإشراف مديرية شؤون المخدرات والمؤثرات العقلية التابعة لوزارة الداخلية منذ إبريل/نيسان 2023، ويشمل ضباطا وموظفين مدنيين في الوزارة.
كان وجيه، وهو برتبة مفوّض، يخشى انكشاف إدمانه على أقراص الكبتاغون (مخدر صناعي يحتوي مادة الفينيثايلين) التي تعاطاها على مدار ثلاث سنوات، مبررا ذلك بأنه وجد فيها وسيلة ليحافظ على يقظته خلال مناوبات العمل الطويلة، قائلا: "عشت صراعا داخليا بين ضغط العمل وغياب التقدير من رؤسائي، فوجدت في المخدرات مخرجا زائفا".
روى الثلاثيني وجيه لمعد التحقيق كيف انزلق إلى تعاطي المخدرات حين التقاه في بغداد، مشيرا إلى تطلب عمله سهرا طويلا ومتابعة مستمرة، ما جعله يرزح تحت التوتر والإرهاق، ويواجه عقوبات متكررة بسبب تراجع تركيزه، إلى أن عرض عليه أصدقاؤه في الحيّ، أقراص الكبتاغون لتجربتها، وارتفعت جرعاته من قرص واحد إلى اثنين خلال نوبة العمل، بل امتد تعاطيه إلى أيام الاستراحة، حتى أن أعراض الإدمان كانت لا تفارق وجهه فيتعرق، ويتلعثم، ويعاني توترا دائما، كما أن التعاطي استنزف راتبه الذي لا يتجاوز مليونا و300 ألف دينار عراقي شهريا (990 دولارا أميركيا)، ما دفعه إلى مواجهة ذاته والذهاب إلى مصح خاص حتى تمكن من السيطرة على نفسه.
وبينما نجا وجيه ونجح في الخلاص من إدمانه، ما زال زملاء له عالقين في براثن المخدرات، وفق ما تكشفه بيانات صادرة عن وزارة الداخلية، إذ تسللت ظاهرة تعاطي المخدرات إلى صفوف القوى الأمنية، كما تؤكد حملة الفحص المفاجئة الأولى في إبريل 2023، وشملت 2000 عنصر، ظهر أن 5% منهم يتعاطون المخدرات، ثم طاولت الفحوص 50 ألف منتسب في يناير/كانون الثاني 2024، ثبت تعاطي 1% منهم، بحسب إحصاءات الوزارة التي حصل عليها "العربي الجديد".
الإدارات الأكثر تعاطيا
"لم تتوقف حملات الفحص العشوائي، منذ اكتشاف حالات تعاطٍ للمخدرات في صفوف رجال الأمن"، بحسب ما كشفه وزير الداخلية عبد الأمير الشمري لـ"العربي الجديد"، وبحسب تقديرات الوزارة، تتراوح نسبة النتائج الإيجابية في هذه الفحوص بين 1% و2% بعد كل حملة. ويُجري الفحوص فريق مشترك من وزارة الداخلية ووزارة الصحة، دون إشعار مسبق للجهة المستهدفة، وتُستخدم في هذه العمليات أجهزة فحص سريعة تُعرف بـ"Ten Multi Drug Panel" تُعطي نتائجها خلال دقائق. ويستشهد الشمري بعملية فحص مفاجئة نُفذت في منتصف عام 2024 داخل دائرة شؤون المخدرات في محافظة ذي قار جنوب بغداد، حيث استُدعي جميع المنتسبين دون إبلاغهم بالسبب، وخضعوا للفحص فوراً، دون تسجيل أي حالة تعاطٍ.
تكشفت هذه الحملات عن تموضع التعاطي داخل صفوف منتسبي نقاط التفتيش الأمنية، المعروفة محليا بـ"السيطرات"، إذ يعمل عناصرها في ظروف قاسية ضمن نقاط ثابتة أو مؤقتة في الشوارع والطرق الرئيسية، وتُوكل إليهم مهام حساسة مثل منع تسلل المسلحين، وضبط الأسلحة غير المرخصة، وإلقاء القبض على المطلوبين. ويأتي في المرتبة الثانية، أفراد شرطة النجدة، المكلفين بالتدخل السريع والاستجابة لحالات الطوارئ، خاصة في المدن الكبرى كالعاصمة، بحسب ما تُجمع عليه المصادر، ويؤكدون أن ضغط العمل وساعات الدوام الطويلة التي قد تصل إلى 16 ساعة يوميا، تُعد من أبرز الدوافع التي تقود أفراد هذه الأجهزة نحو الإدمان، خاصة على أقراص "الكبتاغون".
ووفق مصدر مسؤول في مديرية شؤون المخدرات والمؤثرات العقلية، طلب عدم كشف هويته لأنه غير مخول بالتصريح لوسائل الإعلام، فإن "تعاطي الكبتاغون وإن كان يمنحهم يقظة وطاقة تستمر 72 ساعة، لكنه في المقابل يسبّب اضطرابات سلوكية شديدة وغير متوقعة، قد تتطور إلى سلوك عدواني، كاختلاق مشاجرات أو التعدي على المواطنين أثناء مناوباتهم".
أقراص "الكبتاغون" هي الأكثر تداولاً بين المتعاطين من عناصر الأمن
وتنعكس هذه الآثار بوضوح في حالة وجيه، إذ يروي كيف تحوّل سلوكه إلى العصبية والتوتر خلال فترة تعاطيه، خاصة في تعامله مع زملائه والمواطنين، مستذكرا واقعة صرخ فيها على أحد الضباط وكاد أن يضربه خلال تفتيش مفاجئ لنقطتهم، قبل أن يتدخل زملاؤه لاحتواء الموقف، قائلا: "هذه الأقراص كانت تغيّر مزاجي وتدفعني إلى تصرفات لاإرادية".
المدمن والمُروج بالزيّ العسكري
"تسعى وزارة الداخلية العراقية إلى مواجهة ظاهرة تعاطي المخدرات داخل صفوفها في محاولة لاحتواء المشكلة قبل تفاقمها"، كما يقول مدير دائرة العلاقات والإعلام في الوزارة، العميد مقداد ميري، مؤكدا في حديثه لـ"العربي الجديد" أن الحملة استهدفت حتى نهاية العام الماضي أكثر من 65 ألف منتسب، وفي حال ثبوت تعاطي المنتسب، تتبع الوزارة مسارين مختلفين، أولهما إحالة المدمن إلى مصحة قسرية للعلاج بعد أن تثبت التحقيقات أنه متعاطٍ فقط ولا يد له في الاتجار، إذ افتتحت الوزارة 16 مصحة متخصصة، مع التخطيط لرفع العدد إلى 30، لخدمة منتسبي الوزارة والمواطنين، بينما من يثبت اتجاره بالمادة المخدرة يطرد من وظيفته، كما يحاسب وفقا لقانون مكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية رقم 50 لسنة 2017، وتنص المادة 32 منه على أن "يعاقب بالحبس الشديد وبغرامة لا تقل عن خمسة ملايين دينار، ولا تزيد عن عشرة ملايين دينار كل من: حاز أو أحرز أو اشترى أو باع أو أهدى أو امتلك مواد مخدرة أو مؤثرات عقلية أو مستحضرات كيميائية مدرجة ضمن هذا القانون أو سلمها أو تسلمها أو تبادلها أو صرفها بأية صفة كانت أو توسط في شيء من ذلك، بقصد الاتجار فيها بأية صورة وذلك في غير الأحوال التي أجازها القانون"، وتنص المادة الـ 40 على ألّا تقام الدعوى الجزائية على من يتقدم من متعاطي المواد المخدرة أو المؤثرات العقلية من تلقاء نفسه للعلاج في المستشفى المختص بعلاج المدمنين.
ورغم عدم تقديم العميد ميري إحصائيات عن حجم تورط أفراد الأمن في جرائم المخدرات، توصلت دراسة بعنوان تحليل جغرافي لجرائم المخدرات في العراق أجراها عام 2021، الباحث الأكاديمي في جغرافية الجريمة بجامعة ذي قار الحكومية في مدينة الناصرية جنوبي البلاد، علي العتابي، ويستند فيها إلى بيانات رسمية صادرة عن وزارة الداخلية، إلى أن منتسبي القوات الأمنية يشكلون ثاني أكبر فئة بين المتهمين بجرائم المخدرات بعد أصحاب الأعمال الحرة البسيطة ويُطلق عليهم "الكَسبة"، مشيرا إلى أنه في عام 2021، بلغ عدد الموقوفين منهم 10,972 شخصا، تلاهم 1420 عنصرا من الأجهزة الأمنية، ثم 323 موظفا حكوميا، و107 طلاب.
يشكل منتسبو القوات الأمنية ثاني أكبر فئة بين المتهمين بجرائم المخدرات
أدى ذلك إلى أن تخلق البيئة الإجرامية المرتبطة بالمخدرات حواضن اجتماعية مختلفة الأفراد، كونها جاذبة للكثيرين بالنظر لمغرياتها النفسية بالنسبة للمتعاطين والمادية لدى المتاجرين، حتى أن الفتيات والنساء والأحداث يقعون في حبائلها، كما أن الأجهزة الأمنية وعلى الرغم مما تحرص عليه من عمل وقائي إلا أنها لا تخلو من المشاكل، وغالبا يستغل بعض منتسبيها الميزات الممنوحة لهم مثل التنقل بمركبات الدولة الحكومية غير الخاضعة للتفتيش من أجل بيع وتوزيع المخدرات، وما يجعل من مهمة هؤلاء أكثر سهولة كونهم يتعاملون مع عناصر الشبكات الإجرامية المرتبطة بالمخدرات، ويؤدون مهامهم في أماكن تنشط فيها هذه الآفة ما يسهل وصولهم إليها، بحسب إفادة العتابي لـ"العربي الجديد".
وتبين نتائج الفحوص أن الغالبية العظمى من المتعاطين داخل الوزارة هم من الرتب العسكرية الصغيرة، بحسب عضو لجنة مكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية النيابية، أمير المعموري، مؤكداً تورط بعض المنتسبين في المتاجرة، ومن ينكشف أمره يخسر وظيفته ويحاكم، لافتاً إلى أن اللجنة النيابية شُكلت بعد تصاعد الظاهرة بهدف إصدار توصيات للجهات المعنية وتعديل قانون المخدرات ليشمل تعزيز الإجراءات الوقائية مثل إلزام الفحص الطبي للمخدرات للراغبين في حمل السلاح، أو الحصول على رخصة قيادة، أو التقديم للدراسات العليا.
جزء من ظاهرة أكبر
تصاعدت ظاهرة تعاطي المواد المخدرة بين أفراد القوات الأمنية خلال سنوات النزاع، بدءا من دخول القوات الأميركية إلى البلاد وامتدادا إلى المعارك ضد تنظيم داعش، بحسب ما رصده الدكتور علي البياتي، العضو السابق في المفوضية العليا لحقوق الإنسان (هيئة مستقلة)، موضحا أن تبريرات المتعاطين تمثلت في الهروب من ضغط القتال اليومي، أو لتخفيف وقع المشاهد الصادمة مثل فقدان الزملاء تحت النار، ويقول:" كانت حبوب الكبتاغون تمنحهم تركيزاً ونشاطاً مؤقتاً، وتنسيهم لبعض الوقت ما يرونه يومياً من رعب وخسائر، لكنها سرعان ما تحولت إلى إدمان مزمن".
أما الأسباب الكامنة وراء انتشار الكبتاغون تحديدا، فيربطها الدكتور إبراهيم صفاء الصائغ، معاون مدير مركز الحياة للتعافي في ذي قار (حكومي ويتبع مستشفى الحسين التعليمي) بطبيعة العمل، موضحا لـ"العربي الجديد" أن الإدمان قد يبدأ من أول تجربة تعاطٍ، والكبتاغون شائع بين من يتحملون أعباء جسدية أو ذهنية عالية، مثل طلاب الثانوية العامة وسائقي الشاحنات والقوات الأمنية، رغم مخاطره النفسية والجسدية. أما تعاطي مادة "الكريستال"، فأقل انتشاراً، نظراً إلى حاجتها لأدوات خاصة لاستخدامها، ما يحدّ من تعاطيها داخل أماكن العمل.
وفي ضوء ما يشاهده خلال عمله، يشير الصائغ إلى أن العديد من منتسبي الأمن يُفضلون اللجوء إلى العيادات الخاصة بدلاً من المراكز الحكومية، رغم أن القانون يمنح الحماية لمن يبادر بطلب العلاج طوعاً، والمُبشر على حد قوله أن من أشرف على علاجهم من عناصر الأمن أظهروا تحسناً ملحوظاً دون انتكاسات.
ولم يكن تعاطي رجال الأمن للمخدرات خلال فترات القتال والحروب، كما أشار البياتي، سوى وجه من وجوه ظاهرة أكثر عمقا، ترسّخت في العراق خلال السنوات الأخيرة حتى شملت شرائح واسعة من المجتمع وهو ما تؤكده إحصائيات كشفها العميد ميري، حول حجم الاتجار والتعاطي خلال عام 2023، إذ جرى اعتقال 19.035 شخصا من مختلف الفئات، وضبط 4 أطنان من المخدرات و15 طنا من المؤثرات العقلية، إضافة إلى مقتل 16 تاجر مخدرات في مواجهات مسلحة، كما تم ضبط 1700 قطعة سلاح و1350 مركبة كانت تستخدم في التهريب، ويضيف ميري أن عدد المحكومين في قضايا المخدرات تجاوز 9 آلاف شخص، بينهم 140 تاجرا دوليا، في سابقة لم تشهدها وزارة الداخلية من قبل.
ومردّ هذه التحولات الواسعة التي يشهدها العراق إلى قربه من طرق رئيسية لتهريب المخدرات عبر الحدود، منها الطريق الذي يمر من أفغانستان وباكستان عبر إيران ومن ثم إلى العراق، وصولا إلى سورية ولبنان ودول حوض البحر الأبيض المتوسط، بحسب تقرير ديناميكيات تهريب المخدرات عبر العراق والشرق الأوسط، الصادر في يناير 2024، عن مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، موضحا أن حجم ما تم ضبطه 4094 كيلوغراما من أقراص الكبتاغون خلال عام 2023، أما الميثامفيتامين فقد زاد 6 أضعاف في العام ذاته، وضُبط 1278 كيلوغراما منه بحسب بيانات وزارة الداخلية العراقية التي يوثقها التقرير وتشمل الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان.
وهذه الأرقام "تعكس مستوى الخطر الذي بات يهدد الأمن المجتمعي من الداخل"، كما يقول العميد ميري الذي تخفي كلماته قلقا كبيرا، فمعشر الأمنيين هم حماة البلد، وتعاطيهم يفتح أبوابه على مصراعيها.

أخبار ذات صلة.
