
في الوقت الذي يشهد فيه قطاع غزة إبادة ممنهجة وعمليات تجويع وتطهير عرقي طاولت مختلف مناطقه، حيث الانعدام شبه الكامل لأبسط مقومات الحياة، ما زال هناك وجهٌ متوحّش يطلّ من خلف الشاشة، وما زالت هناك ماكينات إعلامية تهشّم المعاني الإنسانية في مقابل تبرير الجرائم وحماية الجناة. فقد لعبت وسائل الإعلام الغربية دوراً محورياً في تأطير الواقع بطرائق متعددة، سواء عبر التعتيم على جرائم الحرب أو من خلال سياسة "المفردات"، التي تحمي القاتل وترسّخ في الوعي العالمي رواية مغايرة تبرئه وتبرّر له.
من أبرز هذه الممارسات، التعامل الإعلامي مع التجويع الممنهج الذي يتعرض له سكان القطاع، إذ تتجنب مؤسسات كهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) و"سكاي نيوز" استخدام مصطلحات تصف الحقيقة بوضوح جنائي، مثل "تجويع"، وتستبدلها بتعابير تقنية مثل "malnutrition" (سوء تغذية) أو "food insecurity" (انعدام الأمن الغذائي)، رغم تحذيرات صريحة من منظمات أممية تؤكد أن سكان غزة يواجهون "ظروفاً تشبه المجاعة" (famine-like conditions).
يشير بحث إلياس شوبيك (Elias Sjöbeck)، المعنون "Media Framing of the Israeli-Palestinian Conflict" (التأطير الإعلامي للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي)، والصادر عام 2025 عن جامعة لوند السويدية، إلى أن اختيار المفردات في الإعلام ليس فعلاً بريئاً، بل يعبّر عن بنية سردية تنزع الطابع السياسي عن الجريمة وتفرغها من مضمونها القانوني. فبينما يُعدّ التجويع المتعمّد للمدنيين جريمة حرب وفقاً للمادة 8(2)(ب)(xxv) من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، فإن تأطير الواقع بلغة محايدة يخفي الأثر القانوني والإنساني للجريمة، ويصبح بذلك شريكاً مؤسساً في استمرارها. تنص المادة 8(2)(ب)(xxv) من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على أن "تجويع المدنيين عمدًا كأسلوب من أساليب الحرب، عبر حرمانهم من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم، بما في ذلك عرقلة إيصال مواد الإغاثة الإنسانية" يُشكّل جريمة حرب.
في تقريرها حول المجاعة في غزة، تستخدم "بي بي سي" عنواناً يحمل طابعاً تقنياً ومحايداً: "Gaza health ministry says 33 people died from malnutrition in 48 hours" (وزارة الصحة في غزة تقول إن 33 شخصاً توفوا بسبب سوء التغذية خلال 48 ساعة). العنوان، في ظاهره، يبدو موثوقاً، لكنه يُقحم المصدر الفلسطيني ("تقول وزارة الصحة") بطريقة تُضعف الخبر وتخضعه للتشكيك. أما استخدام مصطلح "سوء التغذية" بدلاً من "تجويع متعمد"، فيُفرغ الجريمة من فاعليتها، ويجعلها تبدو كأزمة صحية لا نتيجة حصار ممنهج. هذا النمط في الصياغة يعيد ترتيب السردية بحيث تتحوّل الجريمة إلى ملابسات.
وفي موضع آخر، تورد "بي بي سي": "International journalists, including the BBC, are blocked by Israel from entering Gaza independently, so it is difficult to verify the number of reported malnutrition deaths" (مُنِع الصحافيون الدوليون، بمن فيهم صحفيو بي بي سي، من دخول غزة بشكل مستقل من قبل إسرائيل، لذا من الصعب التحقق من عدد الوفيات الناتجة عن سوء التغذية). هنا تُعرض العقبة على أنها صعوبة في "التحقق"، لا بوصفها فعلاً متعمّداً لحجب الحقيقة. بدل تحميل إسرائيل مسؤولية منع التغطية، يُعاد تشكيل الخطاب بحيث تتحوّل الكارثة إلى "أرقام" مشكوك فيها، لا أرواح ضائعة بفعل سياسة ممنهجة. ويذكر التقرير أيضاً اتهام الجيش الإسرائيلي لحركة حماس بأنها: "conducting a false campaign regarding the humanitarian situation" (تشنّ حملة كاذبة بشأن الوضع الإنساني). ورغم أن العبارة منسوبة إلى جيش الاحتلال الإسرائيلي، يُنتج إدراجها من دون تفنيد أو توازن تحليلي خطاباً يُضعف الرواية الفلسطينية ويُحيلها إلى مجرد "أداة ضغط" تفاوضية، بدل الاعتراف بها مأساةً ناتجة عن جريمة موصوفة.
أما الصوت الإنساني الواضح الذي يُدين الفعل، فيرد مرة واحدة فقط عبر اقتباس جانبي: "This is a deliberate and human-made disaster" (هذه كارثة متعمدة ومن صنع الإنسان)، كما قال المدير التنفيذي لمنظمة MedGlobal. لكن التقرير لا يمنحه الثقل السردي الكافي، ويأتي صوته استثناءً وسط سيل من العبارات المُخفِّفة واللغة الحذرة.
أما في تغطية "سكاي نيوز" يوم 23 يوليو/تموز 2025، فجاء العنوان كالتالي: "Gaza food situation 'worst it's ever been', Charity says, as tank attack reportedly kills 12 at camp" (الوضع الغذائي في غزة هو الأسوأ على الإطلاق، بحسب منظمة خيرية، وقصف بالدبابات يقتل 12 في مخيم، وفقاً للتقارير). العنوان يستخدم تعبيراً ملطفاً ("الأسوأ على الإطلاق") على لسان جهة غير محددة ("منظمة خيرية")، ما يُفرغ المعلومة من وزنها الحقوقي، ويقدّم المجاعة بوصفها تحوّلاً طبيعياً لا جريمة ممنهجة. أما الحديث عن مقتل 12 مدنياً، فجاء بصيغة مشروطة ("وفقاً للتقارير")، وكأن الواقعة لا تزال محل جدل، رغم وجود شهادات وصور. النص نفسه يتضمّن شهادات حية مثل: "نحن نسير نحو الموت"، و"لا طعام لأطفالنا"، لكنه يتجنّب وصف الحالة بأنها مجاعة، ويتجاهل السياق القانوني الذي يجرّم استخدام التجويع سلاحَ حرب. كما ينقل اتهام إسرائيل لحركة حماس بأنها "تخلق الفوضى" في توزيع المساعدات، من دون مساءلة الرواية أو تقديم صوت حقوقي مضاد. ويُختتم التقرير بتصريح لوزير الخارجية البريطاني يربط المساعدات بإقصاء "حماس" عن الحكم، ما يُحوّل حياة المدنيين إلى ورقة تفاوض.
هكذا، ومن خلال خطاب "إنساني" مشروط، تُخفي التغطية الإعلامية فاعل الجريمة، وتُعيد تأطيرها أزمةً غامضةً بلا مسؤول. أما البُعد السياسي، فلا يقل وضوحاً. فبريطانيا الرسمية تستمر في ربط الدعم الإنساني بشروط سياسية، وتُبرّر المنع باسم "مكافحة الإرهاب"، متناسية أنها كانت ولا تزال طرفاً أصيلاً في المأساة الفلسطينية، بدءاً بوعد بلفور، مروراً بتسليح الاحتلال، وصولاً إلى نسج هذا التواطؤ الجديد في الإعلام. إن المراوغة اللغوية في تغطية المأساة ليست مجرد انحياز، بل هي موقف بنيوي يرى الفلسطيني خطراً أمنياً لا ضحية إنسانية. وحين تُقدّم الشهادات الحية عن الموت جوعاً بوصفها مجرد "روايات"، مقابل خطاب رسمي إسرائيلي موثوق ومكرَّر، تتحوّل وسائل الإعلام إلى أدوات تدير الجريمة بدل فضحها. هكذا، لا تكتفي بريطانيا بأن تكون شريكاً في هندسة المأساة الفلسطينية، بل تواصل ترسيخها وتجميلها إعلامياً، مبرهنة أن الإعلام قد يصبح الوجه الناعم الذي يُدير الجريمة بلباقة وبلا دماء على الشاشة.
إن ما تمارسه وسائل الإعلام البريطانية لا يُعد مجرد انحياز لغوي أو تحفّظ تحريري، بل هو تواطؤ بنيوي يعيد إنتاج الجريمة لا فضحها، ويؤطّر الكارثة الفلسطينية أزمةً قابلةً للتأويل، لا جريمة مكتملة الأركان. وحين يُحرم ملايين المدنيين من الغذاء والماء، وتُمنع المساعدات عن أطفال يموتون جوعًا، يتحوّل كل مفردة مُخفّفة، وكل عنوان مراوغ، وكل خبر مشروط المصدر، إلى شريك في الجريمة. تلك ليست عثرات مهنية، بل سياسات خطابية تُبرّئ القاتل وتُجرّم الضحية، وتُحيل المأساة الفلسطينية إلى مادة تفاوض بدل أن تكون صرخة عدالة. وهكذا، يُصبح الإعلام نفسه جبهة حرب، لا تقلّ فتكًا عن الحصار والقصف، بل تسهم في شرعنتهما، وتُغطي على حقيقة أن ما يحدث في غزة ليس مجرّد مأساة... بل جريمة يُراد لها أن تمرّ في صمت.

أخبار ذات صلة.
