في مسألة السيادة والاستقلال
عربي
منذ أسبوع
مشاركة

لا يُخفى على أحد أن ما تُعرف باسم "السيادة الويستفالية" مبدأ في أدبيات القانون الدولي، ينصّ على أحقّية كلّ دولة بفرض سيادتها في أراضيها. ظهر هذا المبدأ في أوروبا في أعقاب سلام ويستفاليا عام 1684، استناداً إلى نظرية الدولة عند الفيلسوف السياسي الفرنسي جان بودان (1595-1530)، وفكرة القانون الطبيعي عند القانوني، ورجل الدولة الهولندي هوغو غروتيوس ((1645-1583 ما شكّل لاحقاً الأساس الذي قام عليه ميثاق الأمم المتحدة في ما يخصّ عدم جواز التدخّل في مسائل تخضع للسلطة القانونية لأيّ دولة.

هناك توافق عام بين علماء السياسة على أن سلسلة الاتفاقات التي شكلَّت بمجموعها سلام ويستفاليا كانت الأرضية التي بُني عليها النظام الدولي الحديث، وعلى وجه التحديد، عدم التدخّل في الشؤون الداخلية لدولة أخرى. أي أن ما نعيشه اليوم هو مفهوم الدولة الويستفالية، بغضّ النظر عن النظام السياسي لهذه الدولة أو تلك. بيد أن الإشكالية التي يقدّمها هذا المفهوم تتمثّل في أنه في صميم تكوينه النظري وتطبيقاته العملية يقدّم في حقيقة الواقع تفسيراً مغلوطاً لمفهوم السيادة والاستقلال، التي يراها هذا المقال مجرّد مسمّيات لا وجود لها أصلاً.

بالعودة إلى التاريخ، كانت حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648)، التي انتهت بتوقيع سلام ويستفاليا، صراعاً بين الكاثوليك الداعين إلى أن تكون أوروبا محميةً مسيحيةً يحكمها روحياً البابا وسياسياً إمبراطور صالح، مثلما كان الحال في الإمبراطورية الرومانية المقدّسة، من جهة، والإصلاحيين البروتستانت الذين رفضوا سلطة البابا الروحية ومثيلتها السياسية لأسرة هابسبورغ مطالبين بحقّ استقلال الدول جميعها، من جهة أخرى. هذا يدلّ على أن مفهوم ويستفاليا نشأ أصلاً من صراع مذهبي على السلطة في أوروبا ما قبل ظهور الحركات القومية. ولأن الحرب انتهت من دون حسم واضح لمصلحة أيّ من الطرفَين، جاءت معاهدة ويستفاليا تسويةً لا غالب ولا مغلوب فيها.

اكتست فكرة السيادة الويستفالية أوائل القرن السابع عشر تحوّلات جوهرية كُبرى مع ازدياد حدّة التوترات السياسية والاقتصادية بين الدول الأوروبية

اكتست فكرة السيادة الويستفالية أوائل القرن السابع عشر تحوّلات جوهرية كُبرى مع ازدياد حدّة التوترات السياسية والاقتصادية بين الدول الأوروبية، فقد فتح عصر الاستكشاف الطريق إلى موارد العالم الجديد، وانتشرت نظريات جديدة مثل المركنتلية الاستعمارية بين النُّخب السياسية، بالتزامن مع ظهور بواكير النزعة القومية الأولى التي ترعرعت في كنف الطبقة البرجوازية الأوروبية ورعايتها. أثمرت هذه التحوّلات الجديدة في القرن التاسع عشر افتراقاً تدريجياً للنظام الدولي عن نظيره الويستفالي القديم مع انتشار المكننة الصناعية، ومفهوم موارد الطاقة وديمومتها في اقتصاديات الدول. يلفت أندرياس أوسياندر في مقالته "السيادة، والعلاقات الدولية والأسطورة الويستفالية" (مجلة المنظّمة الدولية، المجلد 55، العدد 2، ربيع 2001)، إلى أن التصنيع هو ما أدّى إلى نشوء دوائر اقتصادية متكاملة ووسائل إدارتها بالتوازي مع ظاهرة القومية الحديثة بصفتها أيديولوجيا جامعة لا غنى عنها لهذا النمط السياسي الجديد، الذي يمكن توصيفه بالدول الكبرى، ليغدو مفهوم السيادة والاستقلال رمزاً للتنافس والصراع بين برجوازيات القوميات الأوروبية التي أنتجت ثقافةً عنصريةً لا تخلو في العديد من أدبياتها السياسية من جذور دينية.

وعلى المنوال نفسه، انبرى عديدون من مفكّري القرن العشرين لإحياء المفهوم الويستفالي، ليكون مفتاحاً تأويلياً ومعيارياً يتلاءم مع التطوّر التكنولوجي وانعكاساته على الاقتصاد على نحو يعزّز الإدارة المركزية لوحدات جغرافية كُبرى، ويمنح سلطةً أكبرَ للحكومات المركزية، لتصبح كلّ دولة في حدّ ذاتها دائرةً اقتصاديةً وسياسيةً واجتماعيةً تتحكّم بها علاقات الصراع والتنافس في إطار تركيبة النظام الرأسمالي، وتعيد إنتاج مصطلح لم يقدّم أصلاً أيَّ مضمون عملي للسيادة والاستقلال، بل تحول ذريعةً للهيمنة وإخضاع الآخرين، وقاد أوروبا إلى حربَين مدمّرتَين. في هذه الحيثية تحديداً، أخذت الدولة في صميم تكوينها البنيوي المؤسّساتي دور المراقب الراعي للدورة الاقتصادية التي يتحكّم بها مالكو وسائل الإنتاج، الذين باتوا هم من يعطون مفهوم السيادة والاستقلال "الويستفالي" دلالاته الواقعية، أي أن مفهوم السيادة للدولة ذاته أصبح رهينة الرأسمال. ومن أكثر الأمثلة وضوحاً شركة الهند الشرقية التي وظّفت قدرات الأسطول الحربي البريطاني لتعزيز مصالحها في الهند، وعلى نحوٍ لا يختلف كثيراً عن الدور الجيوسياسي الراهن للأساطيل الأميركية في رعاية المصالح الأميركية في الشرق الأوسط.

كانت الاتفاقات التي شكلَّت سلام ويستفاليا أرضية بُني عليها النظام الدولي الحديث، لا سيما عدم التدخّل في الشؤون الداخلية لدولة أخرى

في هذا الإطار، تتلاعب سوزان سترينغ بكلمة ويستفاليا (Westphalia) لتحوّلها باللغة الإنكليزية إلى " إخفاق الغرب" (Westfailure)، في عنوان مقالتها "نظام إخفاق الغرب" (لندن، مجلة الدراسات الدولية، العدد 25، 1999)، التي أشارت فيها إلى أن تنامي مفهوم السيادة لهذه الدول وتأثيره على المجتمع والاقتصاد كان نتيجةً للتنافس في ما بينها أولاً على الأرض، ومن ثمّ السعي إلى تحقيق التفوق الصناعي والمالي، ومتطلّبات الإنتاج الرأسمالي القائم على آلية السوق. هذا التنافس، كما تقول الباحثة البريطانية، كان سبباً في نشوء ثلاث مشكلات كبرى، لا يستطيع النظام الويستفالي بطبيعته أن يحلّها، وهي الاضطرابات المالية، والكوارث البيئية، واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء. أي أن إخفاق النظام الويستفالي ليس سوى إخفاق النظام الرأسمالي نفسه، ودوره في تدمير كلّ ما يتعلّق بالسيادة والاستقلال.

لعلّ المشكلة الأساس التي أفرزها المفهوم الويستفالي لسيادة الدولة واستقلالها على رقعتها الجغرافية هي التي تحدّث عنها الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز (1679-1588) في كتابه "الإنسان والمواطن" (نيويورك، دبل داي، 1972) بقوله إن الإنسان كائن ينظر إلى محيطه من باب المصلحة الذاتية، الأمر الذي يستدعي ضرورةً أن تتوافق سيادة الدولة مع مجتمع بشري تتعدّد مصالح أفراده الذاتية التي ترتكز أساساً على قانون الطبيعة، بمعنى استمرارية الحياة. وهذا بدوره يدللّ على أن مشكلة الحكم السياسي تتمثّل في وضع الضوابط التي تنظّم هذه المصالح. أي أن الفرد بالنسبة إلى هوبز "نتاج مجتمع ينظّم حياته"، وكيفية التوفيق بين القانون الطبيعي والعقد الاجتماعي. لهذا السبب سقطت فكرة الاكتفاء الذاتي بصفتها تطبيقاً عملياً لفكرة السيادة والاستقلال التي انتشرت بكثرة في ثلاثينيات القرن الماضي في أوروبا، وتحديداً ألمانيا، التي كانت فيها هذه القضية مسألةً مركزيةً بالنسبة إلى الحزب النازي، وفي مقدمتهم جوزيف غوبلز، الذي كتب قائلاً إن أمّةً لا تستطيع أن تسيطر على فضاء وموارد وقوى طبيعية ضرورية لحياتها المادية، لا بدّ أن تسقط في فخّ الاتكال على دول أجنبية، وتخسر سيادتها واستقلالها. بيد أن المفارقة المثيرة للسخرية أن النازيين وظّفوا مسألة الاكتفاء الذاتي شعاراً لإخضاع الدول الأخرى ومواردها ضمن أيديولوجيا النقاء العرقي. هل يختلف كلام غوبلز عما ردّده الرئيس الأميركي ترامب بشأن الموارد الطبيعية في غرينلاند، والاستيلاء عليها بحجّة أهميتها للولايات المتحدة؟ والسؤال نفسه ينطبق على التدخّل الفرنسي في أفريقيا تحت شعار الفرانكوفونية لتوفير المواد الخام لمصانعها.

لا يمكن لأيّ دولة أن تكون مستقلّة تماماً عن دولة أخرى، إلا في الشكل القانوني أو السياسي

من هذا المنطلق، تبدو ثنائية السيادة والاستقلال، بوصفها معياراً ثابتاً في العلاقات الدولية، أمراً صعب التحقيق، إن لم يكن مستحيلاً، لعدّة أسباب أولها القوة والمصلحة القومية، كما يقول ألكساندر ويندت في كتابه "النظرية الاجتماعية للسياسة الدولية" (كيمبردج، 1999). يشير الباحث الأميركي إلى أن جميع الدراسات ما بعد الحرب العالمية الثانية فسّرت القوة بأنها مراكمة المقدرات العسكرية لتحقيق المصلحة الوطنية بصفتها رغبةً أنانيةً في امتلاك النفوذ والثروة والأمن. إن كانت هذه الأسباب شكّلت العامل المادي في إعادة رسم العلاقات الدولية كما يقول الباحث الأميركي، إلا أن ثمّة عنصرا جديدا دخل إلى الإرث الويستفالي متجسّداً بالتطوّر الهائل لتكنولوجيا المعلومات التي باتت وسيلةً جديدةً تقوّض السيادة والاستقلال بأدوات ناعمة لزعزعة المجتمعات من الداخل، وإعادة قولبتها ثقافياً بما يخدم غايات جيوسياسية ومراكمة الأرباح الاقتصادية، مع التنويه بأن توظيف تكنولوجيا المعلومات ووسائل الاتصال هو سلاح ذو حدَّين، ما دامت هذه الوسائل قادرةً على تخطّي الحدود بسرعة البرق.

إذا عدنا في جردة حساب تاريخية للمفهوم الويستفالي، يمكن للمراقب أن يلاحظ أولاً أن هذا المفهوم لم يكن يوماً معياراً عملياً للسيادة والاستقلال، وثانياً أن البرجوازيات القومية الأوروبية أسهمت في توظيف السيادة والاستقلال لخدمة الجشع الرأسمالي. بعبارة أخرى، لا يمكن لأيّ دولة (صغيرة أم كبيرة) أن تكون مستقلّة تماماً عن دولة أخرى، إلا في الشكل القانوني أو السياسي. في كتابه "نظرية السياسة الدولية" (كاليفورنيا، أديسون ويزلي، 1979)، يرى الأكاديمي الأميركي كينيث والتس ما يمكن تلخيصه بالقول إن العالم كلّه مكوَّن من وحدات تعتمد على بعضها بعضاً بدرجات مختلفة، تحدّدها ضروريات الحياة نفسها. إذ لا يمكن لأيّ دولة أن تحمي حدودها إلا بالتعاون مع دولة أخرى، كما لا يمكنها توفير ما تحتاجه من موارد لا تمتلكها إلا بالاعتماد على دولة أخرى. بيد أن الفهم الخاطئ لفكرة التعاون والاعتماد على الآخر ينبع، كما يقول والتس، من نقطتين هما، أولاً كيف يؤثّر اختلاف البنية المكوِّنة لدولة ما في معنى ومفهوم التطوّر والتنمية، أي كيف يمكن للتركيبة الاجتماعية والثقافية أن تفسّر هذا التعاون والتبادل المصلحي؟ وتتعلق النقطة الثانية بدرجة التعاون نفسها، قياساً إلى مقدرات دولة ما. بيد أن المشكلة الأساس التي نراها الآن في أمثلة عديدة تكمن في أيديولوجيا فائض القوة لدى دولة ما، تفسّر سيادتها واستقلالها استعباداً للآخرين.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية