جمهوريةُ "الفزعات" السورية المتوحّشة
عربي
منذ أسبوع
مشاركة

ما زال المشهدُ محموماً وملتبساً في ظلّ الانزياحات الكُبرى التي تجري في الأرض السورية، بينما هامش الخيارات بدأ يضيق على السوريين من ناحية الحفاظ على وحدة البلاد. ويُلاحَظ في سياق الأحداث أنّ المجتمع السوري يشهد انزلاقاً خطيراً نحو القاع، يجعلنا نتوقّف عند سؤال ملحّ: مَن هم السوريون حقّاً في ظلّ جمهورية "الفزعات القَبلية الانتقائية" التي طفت في سطحها كلّ الأمراض المذهبية والنفايات المجتمعية، يُستأصَل فيها كلّ مختلفٍ يلوك الألم بصمتٍ كي لا يُقتل. التناقض العميق في مفهوم الوطن جعل من معضلة البحث عن الهُويَّة سمةً مشتركةً بين السوريين، قفزت من الهامش إلى مركز الحدث، وتجسّدت فعلياً في ظاهرة "التكويع"، وهي أرضٌ خصبة تُعيد تدوير المقدّس السياسي عبر الشعار المُحدَّث: "الله، سورية، الشرع وبس"، إمّا لتثبيت سردية "الشرعية الثورية" أو لتسويق تركة "المظلومية السُّنية"، حتى أصبح المنطق فعلاً من أفعال التجديف والخَرَف، وكأنّ السوريين المهزومين أخلاقياً يدورون في فلك مزرعة جديدة، وكلّ مكوّن يبحث عن خلاصه الفردي بحجّة "الضرورة الطائفية".

وفي ضوء ما سبق، يفتح سقوطُ نظام الأسد الباب أمام تساؤلاتٍ عدّة مرتبطة بقدرة السوريين على تجاوز خلافاتهم وإعادة بناء دولتهم، وقد تحوّل كثيرون إلى وحوشٍ منفلتة يعانون هيستريا الانتصار من مبدأ "المغالبة لا المشاركة"، تبرّر لهم مصطلحات من قبيل "هيبة الدولة" و"ضبط الأمن" سياقات العنف والذبح والتحريض. وفي مرحلة مفصلية، يُفترض أن تبدأ فيها سورية بالتعافي، تعود إلى الواجهة مشاهد بربرية صادمة: انتهاكات ومجازر، انفجارات وحرائق، وزيرٌ متبجّح يصنّف أبناء الطائفة العلوية خدماً أو مجرمين فقط! ملصقات دعوية تحمل خطاباً دينياً إقصائياً، إزالة تمثال الشهداء في ساحة سعد الله الجابري بحلب، حلق شوارب رجال دروز بقصد الإهانة، الاعتداء بالسيوف والعصي على تظاهرة سلمية أمام مبنى البرلمان لأنها نادت: "دم السوري على السوري حرام"، ساحات الدعوة إلى الجهاد ضدّ أبناء الوطن... إلخ. هذه المشهديات المأساوية التي تبدو ظاهرياً متفرّقةً مترابطة بشكل عضوي باطنياً، فهي وإن كانت مخرجات عقد من حربٍ أهلية جنحت بعد شهورها الأولى إلى العنف، الذي أطاح التعايش والسلم الأهليَّين بسبب نظام الأسد القمعي المتوحش، ما شكّل انزياحاً قاتلاً للثورة الوطنية المتمدّنة، وإلباسها عباءة الصراع القبليّ والجهويّ.. هذه المشهديات في المقابل وقود ماكينة إعلامية وسياسية تعمل في الظلّ بهدف توظيف الألم السوري والاستثمار السياسي في جروحه العميقة، التي لا تزال مفتوحةً وملتهبةً.

داخلياً، يواجه السوريون اليوم تحدّياً وجودياً، لا معالجة إرث الانقسام والتدمير فقط، بل النجاح في إدارة "الفوضى القطيعية"، ومن ثمّ الإجابة بشفافية مطلقة عن السؤال التالي: هل حاربت الجماعات الإسلامية المتطرّفة نظام الأسد لأنّه دكتاتوري، وهي تريد حقّاً إرساء أسس الديمقراطية، خصوصاً أنّ الإعلان الدستوري الجديد يُعرّض حقوق السوريين للخطر، بحسب منظّمة هيومن رايتس ووتش؟ وعلى خلاف ما يروّجه بعضهم، إنّ الديكتاتورية، ولو كانت إسلامية، خيار أفضل من الفراغ السياسي، هو ادّعاء مُضلِّل، حتّى ولو ثمّة توافق نسبي بين الإسلاميين والعلمانيين فرضته خصوصية مرحلة ما بعد سقوط الأسد.

التناقض العميق في مفهوم الوطن جعل من معضلة البحث عن الهُويَّة سمةً مشتركةً بين السوريين

في كتابه "كيف يسقط الطغاة: وكيف تنجو الأمم"، يطرح الباحث مارسيل ديرسوس سؤالاً عن كيفية التعامل مع الغوغاء، ويجيب: لا تقمعهم، لأنك إذا أطلقت النار ستخسر. بالتوازي، يكتسب كتاب "إدارة التوحّش"، لأبو بكر ناجي أهميةً خاصّة بالنسبة للحالة السورية، ويُقصد بالتوحّش حالة الفوضى التي دبّت في أوصال الدولة بعدما أُزيلت عنها قبضة الأسد، فتحوّلت غولاً غاضباً ومنفلتاً من كلّ عقال، لذا على من يسعى "للتمكين" مراوغة الوحش بحكمة وهدوء حتّى تستقر الأمور. بالتالي، الاستراتيجية التي يقترحها المؤلف بعد خلع شوكة الطغاة وصولاً إلى مرحلة "إدارة التوحّش" ضربات متسلسلة للعدو قبل سحقه. وفي الحالة السورية، تبرز الطائفية باعتبارها عدو المواطنة الأول وأسّ الفوضى، لكن (للمفارقة) ما حصل فعلياً ليس ضربها، بل شُيطِنت "الأقليات" وقتل أفرادها تمهيداً لتحويلهم "أهل ذمّة"، بالتزامن مع تعزيز "الهُويَّة الأموية" التي تمثّل، باعتقاد من يتبنّاها، ذروة النفوذ العربي الإسلامي في الشام، بينما يصعب فهم "فهرس التوحّش" في سورية، وهي معقل الحضارات الذي لم يتوقّف يوماً عن إنتاج الحروب الطاحنة، وآخرها تُعَدّ واحدةً من أسوأ الكوارث البشرية في التاريخ.

وبالنظر إلى ما يُتوقّع أن تنتهي إليه سورية، ترتكز منظومة "الفوضى المتوحّشة" على دعامة أساسية: انحلال الهُويَّة الوطنية الجامعة، مُشعلةً الأحقاد والصدامات لأتفه الأسباب، والأدلة والآثار الهائلة تتحدّث بشكل جليّ عن نفسها. خُذْ مثالاً عدم محاسبة من سرّبَ تسجيلاً صوتياً مفبركاً يشتم النبي (ص)، اتُّهم به شيخٌ درزي، ستنتهي تداعياته حكماً بالتصعيد الدموي أخيراً في السويداء بين السوريين الدروز والفَزعات العشائرية السورية "السُّنية" مخلّفاً كارثةً إنسانيةً ووطنيةً مهولة. ويبدو أنّ مرحلة السقوط السياسي والعسكري للنظم الفاشية تتبعها دائماً مرحلة سقوط أخلاقي وقيمي مريب، ما قاد مراقبين إلى التساؤل: أيهما أسلم (وأصحّ) في بلدٍ مشتعل كسورية، "ديمقراطية التقسيم" أم "وحدة الدكتاتورية"؟... بشيء من التعميم هو سؤال معلّق، سيجيب عنه مقبل الأحداث والمستجدّات، لكنّ هيئة تحرير الشام لن تقدر على تجنيب البلاد الانقسام والحرب الأهلية من دون مراجعة إسعافية لفكرها الجهادي، ولشبكة تحالفاتها، خطوة أولى للانفتاح على الجميع.

منظومة "الفوضى المتوحّشة" ترتكز على انحلال الهُويَّة الوطنية الجامعة، مُشعلةً الأحقاد والصدامات

يطرح كلّ ما تقدّم تحدّيات وجودية أمام السلطة الجديدة، ويضع العصيّ في دواليب شرعيتها، فمن الخطورة بمكان أنها لم تطلق تسمية "شهداء" على قتلى كنيسة مار إلياس بدمشق، وقبلها مجازر العلويين في الساحل، دليلاً صارخاً على فرض معايير معينة من منطلق عقائدي بحت. أمّا الكارثة الكُبرى التي يعيشها ضحايا القتل الممنهج فهي اقتناعهم بأنّ نظام الأسد كان حامي "الأقليات" حقّاً، حالةً مشابهة لما عاشته يوغسلافيا السابقة بعد اندلاع الحرب، إذ شعر كثيرون بالحنين إلى حكم الديكتاتور السابق جوزيف تيتو، معتقدين أنه تمكّن من الحفاظ على تماسك دولة متعدّدة الأعراق.

وبين الافتراض والواقع، يبدو أنّ عورات الحكم الجديد بدأت تظهر مع انتشار طاعون "تمييع الهُويَّة السورية" في مجتمع متهالك يقوده وعي جمعي قاصر، لا يعي أنه عندما تستبيح مجموعةٌ بشرية مجموعةً أخرى بدافع طائفي أو عرقي بحت، فإنّ ذلك يُنهي مبرّر وجود الاثنين رسمياً في بقعة جغرافية واحدة، ويعيد تأهيل تجربة أشدّ إخفاقاً وانتكاساً ممّا سبق. أمّا الرهان على إنعاش الهُويَّة السورية (وفقاً لمعطياتها الراهنة)، فهو خاسر على حساب ولادة جمهورية متوحّشة تسودها عصبياتٌ بدائيةٌ ومليشيات منفلتة تمهد لاستبداد وتطرّف ألعن وأخطر.

خلاصة القول، "بنو أميّة مرّوا من هنا"، عبارة باتت تغزو جدران البلاد وكنائسها، وما يُصدَّر اليوم أنّ تاريخ سورية يقتصر على الأمويين، يُعيد تشكيل الذاكرة وفق ما تعتقده الحكومة الانتقالية، وما تحمله من أيديولوجية إقصائية. والعبارة ليست جدلاً تاريخياً مشروعاً، بل أداة صراع طائفي وسياسي مُعلَن بيدِ سوريين، يتبادلون أنخاب انتصارٍ وهمي مغلّف بصبغة دينية، سيفرز إمارةً إسلاميةً يغزوها النَفَس السلفي فاعلاً سياسياً مطلقاً لن يعترف أبداً بمنطق التنوع والمواطنة العادلة.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية