
تقول مريم دلشاد، وهي شخصية مركزية في رواية العُمانية بشرى خلفان "دلشاد... سيرة الجوع والشبع" (دار تكوين، الكويت، 2021)، "...، ورغم أني لم أشهد أياً من الحروب القديمة، ولم أعرفها، فإني أعرفُ الجوع، وأتذكّره جيّداً، فمن عرفَ الجوع يعرف أنه يبقى في الدم، مثل مرض، ولا يمكن لأي شبعٍ بعدَه أن يشفيك منه"... تستثير هذه العبارات زوابع من أسئلةٍ تتعلّق باستراتيجيا حرب التجويع التي تقترفها حكومة إسرائيل الفاشية في حقّ أهالي غزّة. لا تُخبرنا كتبُ التاريخ، ولا أخبار الأقدمين والأبعدين، بأن الفلسطينيين شهدوا في موطنهم أيّ جوع، في أَيٍّ من نوائب التاريخ، بل أوضح جغرافيٌّ ألمانيُّ اسمُه ألكسندر شولس (توفي في 1986)، في كتاب له، أن فلسطين كانت تصدّر في القرن التاسع عشر كمياتٍ كبيرةً من فائضها الزراعي إلى جوارها وإلى أوروبا. ومؤرّخٌ واقتصاديٌّ فرنسي، اسمُه بول ماسون، أورد أن استيراد بلاده القمح من فلسطين أنقذها من مجاعاتٍ غير مرّة. ومبعوثٌ بريطانيٌّ وصف في 1859 الساحل الجنوبي من فلسطين بأنه "محيط عُبابٍ من الحبوب". وما زال مدوّناً ذهولُ الدبلوماسي والرحّالة البريطاني، لورانس أوليفانت (توفي في 1888)، لمّا شاهد، في إطلالةٍ له على وادٍ في فلسطين، "بحيرةً هائلةً من سنابل الحبوب المتوّجة... وصورةً مذهلةً لخصوبة عامرة".
فلسطين، وفي القلب منها غزّة، بلاد خيرٍ وفير، والفقر فيها نبيلٌ وعفيف. كأنّ الغُزاة السفلة، وهم يحرقون غزّة وناسَها، يمارسون غيظاً ما، مقيماً فيهم. ولكنه التاريخ، لن يستريح، ولن يطمئن في هذا المقلب الغادر من نوباته العابرة، فإذا كان العالم كله، وفي المقدّمة فيه العرب، انفضح، أمام المشاهد المُفزعة من هناك، ويظهر فيها فلسطينيو غزّة يتسوّلون طعاماً، ويُقتلون، ويفترس الجوع أطفالهم، فإن على البشرية أن تنتظر، ولو طويلاً، انتقام التاريخ، عندما يستعيد الفلسطينيون استحقاقهم منه، وهم شعبٌ صبورٌ وقوي، ويعرف مسارات الأمم ودورات حضاراتها. هذه المشاهد التي تُرى من هناك، لفتياتٍ يصرُخن من أجل وجبة طعام حامضة، لجموعٍ تحتشد لتأكل فقط، تتدافع لتطعم أطفالاً نياماً، يحدُث أن تأخذهم قذائفُ غير عمياء إلى دار الحقّ، هذه المشاهد تحتاجُ لتبقى في ذاكرة الإنسانية أدباً عظيماً، مخيلاتٍ شاهقة، لغةً لم تُبدع مثلها قرائح الحكائين والشعراء والساردين.
كان الصديق عبده وازن، في غضون واحدةٍ من نوبات حروب التجويع التي واظب نظام الأسد على اقترافها في سورية (في مضايا وغيرها)، قد سأل عمّن سيكتُب أدب الجوع في سورية. ونجدُنا، في أتون الجحيم الراهن في القطاع المنكوب، في سؤالٍ آخر، غير مماثلٍ بالطبع، عمّن يكتُب أدب التجويع في غزّة. في أي زمنٍ سيُقرأ أدبٌ عالٍ، متفردٌّ لم يُسبَق، عن هذا الفصل الأشنع من كل النكبات الفلسطينية السابقة، وقد قال إبراهيم نصرالله، في ندوةٍ في معرض الدوحة للكتاب، إن الأدب الفلسطيني، العظيم والجديد، سينكتب من غزّة أو عن غزّة. ولا أعرف إن كان صديقُنا واثقاً من هذا، أم يرغبُه أم يشتهيه أم يُلزم المبدع الفلسطيني به. ولكنّي أجدني أزيد فأقول إن هذا تحدٍّ عسيرٌ وشاقّ وثقيلٌ أمام كل طموحٍ أن يُسطّر اسمُه في مدونة الأدب الفلسطيني الجديد، أن يكتب ألم غزّة، القتلَ اليومي الكثيف، تمويتَ (الصحافية) آلاء الجعبري وزوجها وأطفالها الأربعة، وتمويت أطفال آلاء أخرى (الطبيبة آلاء النجار) الثمانية وزوجها، وغيرَهم ممن يرحلون إلى الموت خفافاً كل يوم، فيصيرون أعداداً على الشاشات. ألمُ غزّة باهظُ الفداحة، لا تُسعف المعاجم بذخيرةٍ من اللغة لتشخيصه، وهذه المسغَبة (عذراً للإفراط في الفصحى: الجوع مع التعب) هناك إذا لم تقلق مخيّلات الشاعر الفلسطيني وزملائه الروائيين والقصّاصين والمسرحيين، إذا لم يشاغلها البحثُ عن التعبير الأقصى عن الكارثة، فإن اختلالاً لا بدّ سيرجّ كل المفاهيم المتعلقة بالأدب نفسه، لا وظيفته ولا رسالته، فهذه وتلك موصولتان بحديثٍ ثقافويٍّ عتيق، وإنما المسألةُ هنا، عن الشعور الخاصّ لدى الكاتب عندما لا يكون شعوراً عاماً في غضون جريمة مشهودة، من مرتبة حرب تجويعٍ قاتلةٍ في غزّة، من مرتبة أخذ فلسطينيين إلى ما لم يكن مُتخيّلاً يوماً، وقد كانت بلادُهم، على ما وصفها الإنكليزي جورج سانديز (في 1615) "أرضاً لا بقعة فيها تخلو من الحبور والنفع".
ليس من شبعٍ يشفي الذي يُصاب بالجوع، على ما أخبرتنا شخصيةٌ متخيّلةٌ عند بشرى خلفان. وليس من غفرانٍ، أيها التاريخ، سيُنعِم به الفلسطينيُّ عليك... إنه ينقتلُ تجويعاً. تذكّروا فقط، إياكم والنسيان.
