
في ظل بطالة تتجاوز 50% وغياب البدائل الاقتصادية، يجد آلاف العمال الفلسطينيين أنفسهم مضطرين لمحاولة العودة إلى العمل داخل الأراضي المحتلة بـ"طرق غير قانونية" عبر اجتياز جدار الضمّ المقام على أراضي الضفة الغربية، رغم ما يرافق ذلك من مخاطرة واعتقالات يومية وتنكيل على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي. ويأتي ذلك بعدما تحوّل التهريب إلى الخيار الوحيد أمام كثيرين، باتوا في عدّاد خطّ الفقر، غير أنهم يواجهون اعتقالات داخل أماكن عملهم تفاقم أزماتهم، فيما تشتد أزمة أخرى تطاول مئات آلاف العمال المتعطلين بعد أن كانوا عمالًا في سوق الضفة الغربية. وشهدت البلدات العربية داخل أراضي الـ48 حملة أمنية واسعة طاولت عمّال الضفة الغربية، إذ اعتقلت قوات الاحتلال خلال الأسبوع الأول من الشهر الجاري 651 عاملًا في مدن مثل اللد والناصرة وبلدات عربية أخرى، بزعم الوجود فيها بدون تصريح.
اعتداءات جسدية وبطالة
وتقوم قوات الاحتلال، وفقًا للإجراءات المتبعة، بتصنيف المعتقلين إلى ثلاث فئات: الأولى تُحال للاعتقال الإداري في حال وجود ملف أمني، والثانية يُفرج عن أفرادها بعد توقيع تعهدات بعدم تكرار العمل، أما الفئة الثالثة، فيُحول أفرادها إلى السجون بتهم جنائية. ويقول عضو الأمانة العامة لاتحاد نقابات عمال فلسطين عبد الهادي أبو طه، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "العديد من العمال يتعرضون للاعتداء الجسدي أثناء التحقيق، ويُزج بهم في السجون إلى جانب معتقلي الداخل من أصحاب القضايا الجنائية، رغم خلو سجلاتهم من أي تهم أمنية".
في الوقت نفسه، تستمر حركة العمال إلى الداخل المحتل رغم كل القيود، إذ يعمل حاليًا نحو 30 ألف عامل فلسطيني داخل الأراضي المحتلة عام 1948، وفق تصاريح خاصة تُمنح بحسب التنسيق المباشر بين المُشغل الإسرائيلي والعامل، بالتعاون مع المؤسسة الأمنية.
وتُعرف هذه التصاريح بتصاريح "صفر صفر"، ويُكتب عليها "مسموح الدخول رغم الظرف الأمني"، وغالبًا ما يُستخدم حاملوها في قطاعات حساسة مثل المستشفيات، ودور المسنين، والمطاعم. ويشير أبو طه إلى أن هذه التصاريح تختلف عن التصاريح النظامية التي كانت تصدر عن مكتب وزارة العمل الفلسطينية، والتي أُلغيت بالكامل عقب اندلاع الحرب على غزة. ويوضح أبو طه أن الحرب أدت إلى تسريح ما يزيد عن 200 ألف عامل في الضفة الغربية، إضافة إلى إلغاء 130 ألف تصريح عمل رسمي كان يتيح لحامليه العمل داخل الخط الأخضر (المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1948)، ما يعني ارتفاع نسبة البطالة بشكل مفاجئ، واستمرت بالارتفاع مع استمرار الحصار الإسرائيلي على غزة والضفة.
طرق غير قانونية
اضطر عدد من العمال، بينهم كبار في السن، إلى الدخول لأراضي عام 48 بطرق غير قانونية، في ظل الانقطاع الكامل لمصادر الدخل، وتراكم الالتزامات المالية عليهم. ويؤكد أبو طه أن هذه المحاولات محفوفة بالمخاطر، لكنها تعبّر عن عمق الأزمة التي يعيشها العامل الذي بات يضحي بنفسه لتأمين الحد الأدنى من المعيشة لأسرته. وفي مشهد يعكس المآسي المركبة التي يعيشها العمال الفلسطينيون، يروي رجائي صلاح (34 عامًا)، ما تعرض له بعد محاولته العبور إلى الداخل المحتل من خلال القفز على جدار الفصل العنصري من منطقة غرب بيت لحم، وذلك بعد دعوة المشغّل الإسرائيلي له للعودة إلى العمل.
ويقول صلاح لـ"العربي الجديد": "ما إن قفزت عن الجدار في وقت متأخر من الليل، حتى حاصرني أفراد من الشرطة الإسرائيلية واعتدوا عليّ بالضرب المبرح، ثم تم نقلي إلى المستشفى وأجريت لي عملية جراحية في قدمي، ثم جرى نقلي إلى التحقيق الذي انتهي بعد عدة أيام، التُقطت فيه الصور لي وسُجّلت البصمات". فوجئ صلاح باعتقاله بدلًا من الإفراج عنه، إذ جرى تحويله إلى السجون الجنائية، حيث تعرّض لمعاملة قاسية تُشبه ما يتعرّض له الأسرى الأمنيون (أيّ الأسرى الفلسطينيين الذين توجه لهم تهم بمناهضة الاحتلال)، وذلك من خلال العزل والضرب والتجويع.
وبعد مرور نحو سبعة أشهر في الاعتقال، أُجبر صلاح في نهاية المطاف على توقيع تعهد بعدم العودة للعمل في الداخل، مع تهديده بالسجن لسنوات في حال المخالفة. أما الشاب حازم فارس (27 عامًا)، المتزوج حديثًا ويسكن غرب مدينة الخليل، فيقول في حديث مع "العربي الجديد"، إنه بعد اندلاع الحرب على غزة، ترك عمله في مجال الهندسة المعمارية داخل الخط الأخضر، وكان يتقاضى حينها نحو 800 شيكل يوميًا (230 دولارًا تقريبًا)، مقابل 16 ساعة عمل، غير أنّ ظروف الحرب أحالته للبطالة خلال الأشهر الأولى من الحرب ووضعته في دائرة عجز مالي، إذ تراكمت عليه ديون تقدر بنحو 40 ألف شيكل (حوالي 11.400 دولار بأسعار ما قبل عامين)، ولم يتلقَ أي دعم طوال الفترة الماضية من أي جهة.
وبعد أن كان فارس في دائرة البطالة، لجأ بمساعدة أقاربه إلى إطلاق مشروع عبر صفحات الإنترنت، لكنه بالكاد يؤمّن احتياجات أسرته اليومية من العمل الذي يواجه قيودًا فيه بسبب وجود منزله خلف حاجز لقوات الاحتلال يعيق حركته وتنقله في عملية توصيل البضائع، إضافة إلى القيود التي يواجهها بفعل أزمة فائض الشيكل. ويروي فارس قائلا: "لم نكن نتوقع أن تستمر الأزمة بهذا الشكل، كنا نظن أننا سنعود بعد أسابيع قليلة، لكن بعد أكثر من 20 شهرًا، أدركنا أنه لا عودة للعمل في الداخل، والفرص في الضفة نادرة وقليلة الأجر".
507 آلاف عامل عاطلون من العمل
وحسب أبو طه، فإن البيانات المحدثة تشير إلى أن البطالة في الضفة تجاوزت 51%، في حين بلغ عدد العمال المتعطلين عن العمل نحو 507 آلاف، كانوا جميعًا في سوق العمل قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023. وعلى الرغم من أن العمال الإسرائيليين والأجانب حصلوا على تعويضات بسبب تعطلهم عن العمل خلال الحرب، فإن عمال الضفة الغربية الذين كانوا يعملون في الداخل لم يحصلوا على أي تعويض، رغم اقتطاع مبلغ شهري من رواتبهم تحت بند "أقساط التأمين الوطني".
ويؤكد أبو طه أنهم في الاتحاد بالتعاون مع الاتحاد العربي للنقابات رفعوا قضية رسمية إلى منظمة العمل الدولية، تتضمن بيانات العمال المتضررين، ويُتابَعُ الملف من 15 محاميًا قانونيًا من مختلف الدول. ويرى أبو طه أنه من الناحية القانونية تعتبر تصريحات رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، في يناير/ كانون الثاني من العام الماضي، والتي قال فيها إن "على الإمارات دفع تعويضات للعمال الفلسطينيين"، بمثابة إقرار ضمني بوجود استحقاق مالي لهؤلاء العمال.
ويقول أبو طه: "إن جهودهم مستمرة بالتنسيق مع وزارة العمل ومنظمة العمل الدولية، التي قدّمت منحة طارئة بقيمة مليون دولار، وجرى من خلالها صرف تسع دفعات دعم بقيمة 700 شيكل (نحو 200 دولار) للعامل، لكنها لا تكفي، ولو أردنا تغطية كل العمال، فنحن بحاجة إلى مئات الملايين من الشواكل، بل مليارات". ويلفت أبو طه إلى وجود نحو ستة آلاف عامل من غزة عالقين في الضفة الغربية منذ بداية الحرب، حيث تُؤمَّن لهم احتياجات أساسية من مأوى وملابس وغذاء. ويقول أبو طه: "الأزمة تتجاوز قدرة أي مؤسسة فلسطينية منفردة، كما أن حجم الالتزامات أكبر بكثير من حجم الإمكانيات لدينا".

أخبار ذات صلة.
