لم تعد الأزمة السورية مجرّد نزاع داخلي بين مكوّنات المجتمع أو صراع بين قوى محلية، بل تحوّلت إلى ساحة مفتوحة لتجاذبات إقليمية ودولية، تتصارع فيها مشاريع استراتيجية مُتناقضة تسعى إلى رسم مستقبل سورية وفقاً لمصالحها. ويبرز في هذا السياق مشروعان رئيسيان: مشروع تركي يدفع نحو استعادة وحدة الدولة السورية واستقرارها، ومشروع إسرائيلي يعمل على تفكيكها عبر إنشاء مناطق عازلة تخدم أمنه القومي ونفوذه الإقليمي.
تتبنى تركيا رؤية تقوم على استعادة الدولة السورية لسيادتها على كامل أراضيها، تليها معالجة ملفات الأقليات ضمن إطار دولة مركزية موحّدة. من منظور أنقرة، إنّ سورية المستقرّة تشكّل خطّ الدفاع الأوّل عن حدودها الجنوبية، فضلاً عن كونها ممرّاً استراتيجياً نحو الخليج العربي عبر مشاريع نقل إقليمي كبرى، مثل السكك الحديدية والطرق السريعة.
في المقابل، يعتمد المشروع الإسرائيلي على إنشاء منطقة عازلة خالية من السلاح، تمتدّ من الجولان إلى السويداء مروراً بدرعا والقنيطرة. ويتجاوز هذا التوجّه حدود الاعتبارات الأمنية، إلى دعم تشكيل قوى محلية موالية داخل تلك المناطق، بهدف تكريس نفوذ طويل الأمد يضمن لإسرائيل بيئة آمنة على حدودها الشمالية.
تميل الإدارة الأميركية، حتى الآن، إلى دعم المشروع التركي كونه يساهم في تحقيق قدر من الاستقرار الإقليمي من دون تهديد مباشر للمصالح الإسرائيلية. لكن هذا الموقف يبقى مرهوناً بتطوّرات الميدان، في ظلّ قناعة واشنطن بأنّ استمرار الفوضى والانقسام لا يخدم أيّاً من الأطراف على المدى الطويل.
صندوق اقتراع واحد خير من ألف صندوق رصاص
الحكومة السورية، وبحكم عمق علاقتها مع تركيا، تميل إلى تبني النموذج التركي، ولكن يبدو أن تركيا وسورية تريدان الانتهاء من هذا الملف بسرعة، وهو ما نجمت عنه أخطاء في الساحل السوري والسويداء.
من الثورة إلى الدولة: معضلة الانتقال
تُظهر مرحلة ما بعد الثورة خللاً واضحاً في بنية الإدارة، إذ إنّ العقليات الثورية التي أسقطت النظام لا تبدو قادرة على إدارة مؤسسات دولة مدنية. كما أنّ تغليب الولاءات الشخصية على الكفاءة في تسلّم المناصب أدى إلى شرخ عميق في هيكل الدولة. المرحلة المقبلة تتطلّب إصلاحاً شاملاً في جميع مؤسّسات الدولة، وخصوصاً في المؤسسة العسكرية، وإعادة توجيه بوصلتها الوطنية، عبر تحديد العدو الحقيقي بأنه "من يحتل الأرض" لا من "يختلف في الرأي".
النموذج العشائري: تجربة تستحق التفعيل
ليست هناك وصفة واحدة لإدارة بلد متنوّع طائفياً وقومياً كسورية. ومن هنا، تبرز أهمية النماذج التوافقية التي اعتمدتها الدولة السورية سابقاً والأردن حالياً في إدارة المناطق العشائرية، عبر شراكات مع الزعامات المحلية. وقد أثبت هذا النموذج فعاليته في مناطق مثل السويداء، درعا، دير الزور، الحسكة، الرقة، وأرياف دمشق وحماة. إعادة إحياء هذا النهج يمكن أن تشكّل بوابة لضمان السلم الأهلي من دون المساس بسيادة الدولة.
لن تُبنى سورية عبر صناديق الرصاص، بل عبر صناديق الاقتراع. الوحدة الوطنية، وسيادة الدولة، وإصلاح مؤسساتها هي الشروط الأساسية للعبور إلى المستقبل. فصندوق اقتراع واحد خير من ألف صندوق رصاص.
أخبار ذات صلة.
