
استمدّ "كتاب الصيف" (2024، إنتاج فنلندا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأميركية)، لتشارلي ماكدويل، شرعيته الفكرية والفلسفية من حوارات جرت فيه، أفرزت قيماً أخلاقية، بعد تشعّبها في مسارات عدّة. هذا المُعطى جعل المتلقي عنصراً فاعلاً فيه، لأنّه متأثّرٌ، ومستخلص الأبعاد، وفاعل وُجِّهت إليه تلك المنطلقات أساساً، لكنّه لا يستشعرها، ليس لأنّها من دون جاذب، بل لتجاوزها المُرسل والمستقبل، ولاستقرارها في مَشاهد مألوفة تحدث في اليوميّ، فصارت مساراً من مسارات الحياة الواقعية المتعدّدة.
اقتُبست القصة من رواية بالعنوان نفسه (1972)، للفنلندية توف جونسون (1914 ـ 2001)، والاقتباس لروبرت جونز، الذي حافظ على روحها وأبعادها وإنسانيتها، وعلى تفكيكها العلاقات وجمعها في سياق عاطفي معيّن.
عُرض "كتاب الصيف" أولاً في الدورة 68 (9 ـ 20 أكتوبر/تشرين الأول 2024) لـ"مهرجان لندن السينمائي"، قبل بدء عروضه التجارية منذ مطلع 2025 بفنلندا، الدولة التي جرت فيها الأحداث.
تجري الأحداث في خليج ساحر، والمكان معزول ومُحاط بجزر عدّة. تملك العائلة بيتاً خشبياً مُتداعياً ومليئاً بالحياة، اعتادت (العائلة) تمضية فصل الصيف فيه منذ نصف قرن. هناك الجدّة (غلن كلوز) والحفيدة الصغيرة صوفيا (إميلي ماتيوس) التي فَقدت والدتها، وتعيش مع الجدّة التي ترعاها وتهتمّ بها، والأب (أندرس دانيالسن)، الذي يعيش حزناً بسبب فقدان زوجته، وبات يقتات من أحلامها المعلّقة، التي يريد تحقيق بعضها، مهتمّاً بما كانت تهتمّ به في حياتها، كغرس الأشجار والأزهار وريّها، فتكون حاضرة معهم، ولو روحياً.
دور الأب هامشي، لأنّه لا يولّد دراما تؤجّج الأحداث، وتشقّ منطلقات الفعل وردّ الفعل، على نقيض الجدّة، محور الفيلم وركيزته، تتشارك معها صوفيا بالأهمية والحضور نفسيهما، فهما المحرّكان الأساسيان له، انطلاقاً من نظرة كلّ منهما للحياة: الأولى تمثّل خلاصتها وزبدتها، بعد أنْ عاشت وقتاً طويلاً من عمرها، والثانية مقبلة عليها، لكنّها محدودة التجارب والرؤى، تُطلق أحكاماً وتستخلص قِيماً من فطرتها وبراءتها. الجدّة تمزج العقل بالقلب، وتساعد صوفيا على فهمٍ جيد واستيعاب معقول لما يجري حولها، كي تتأقلم مع مرارة الفَقْد من جهة، ومن جهة أخرى كي تجعلها تستعدّ أكثر للفَقْد الثاني، المتمثّل بالجدّة نفسها، التي ـ بأقوالها وأفعالها ـ تُهيّئ ذاك العقل النظيف والقلب الصافي لصوفيا على المقبل.
يطرح "كتاب الصيف" أسئلة مهمة عن الشؤون المختلفة للحياة، محاولاً الإجابة عن القليل منها. لكنّ أهميته تكمن في ابراز السياقات العامة التي تواجه طفلاً صغيراً، عند تعرّضه للفقدان، خاصة عندما يكون المفقود أمّاً، وما تشكّله الأم من أهمية في الحياة. لذا، كان خطّ ماكدويل واضحاً، لأنّه لم يرهق صوفيا بدموع وأحزان كثيرة، ولم يصنع مشاهد "فلاش باك" تعود إلى الأم، بل معطيات ترهق المتلقّي بطريقة أو بأخرى. أو وَجد أنّه لا يقدّم عبرها أيّ جديد سينمائي، فترك صوفيا تواجه الجدّة باستفسارات كثيرة، كي لا نقول أسئلة، وعبرها تتجلّى منطلقات (فكرية وخاصة بقِيَم الحياة) عدّة، بحلوها ومُرّها. بجعلها تفهم وتستوعب، ستعرف جيداً أنّ الفَقْد مرحلة من مراحل دورة الكون، وعندما تحدث، يجب الاستمرار بطريقة أو بأخرى. هذا المعطى زرع فيها رضى وتأقلماً وتجاوباً مع أي معطى يُمكن حدوثه، حتى عند موت الجدة نفسها.
تنعكس جماليات الفيلم في بساطته وعدم تعقيده، إذْ تركّزت المشاهد في لوحات آسرة ضبطها مدير التصوير النرويجي ستورلا براندث غروفلين، مُثبتاً عبرها أنّ هناك علاقة قوية بين البشر ومحيطهم الطبيعي، وأنّه يُمكن للموجودات التأثير بالفرد ونحت شخصيته، وهذا ما حدث مع الشخصيات، إذْ علّمتهم الموجودات أنّهم جزء من هذه الأرض، وزرعت فيهم الهدوء والرزانة والتقبّل. حدث هذا مع الجدّة، التي مارست هواية الغطس في شبابها، والتي علّمت حفيدتها كيفية التأقلم مع الحياة بعد فقدانها والدتها، التي (الوالدة) ابنة الجدّة أيضاً، أي أنّ مرارتها وحزنها أكبر من الجميع. لكنّ بناء القصة ومسارها ابتعدا عنها، وركّزا على صوفيا.
"كتاب الصيف" فيلمٌ مهم، يُذكّر بأفلام العائلة، المهتمّة بالنسيج الأسري، ويفتح منافذ للتأمّل في دورة الحياة، وفي الفقدان والحزن والتجدّد، وأفضل من مثّل هذه القيمة: الجدّة المُدبِرة عن الحياة، والحفيدة المُقبلة عليها.
