التطبيع مع الإبادة في غزة: كأنها حدث جانبي
عربي
منذ أسبوعين
مشاركة

في زمنٍ يحمل فيه البشر هواتفهم، يقرؤون الأخبار المروعة، يسمعون عن الحدث لحظة وقوعه، ويشاهدون الإبادة تُنفَّذ علناً أمام أعينهم، يبقى هناك شيء مشوَّش: الرؤية؛ فالجريمة التي لا تُرتكب في الخفاء، بل تُنفّذ أمام عدسات الكاميرات، لا يزال هناك من يُؤطّرها. ما يصل إلى العالم لا تحدّده الصور ومقاطع الفيديو التي يرسلها الناس من تلك البقعة المنسية الجائعة، بل تحدّده الكلمات التي تُخفف عبء الجريمة، والعناوين التي تُروّضها، والسياق الذي يُمحى عمداً.
حين يُسلب الإنسان من صفاته البشرية، تُفتح الأبواب أمام التعامل معه بوصفه كائناً زائداً عن الحاجة. هنا، لا تكون الإبادة بالسلاح وحده، بل بالكلمات، وبالصورة المبتورة، وبالاسم المحذوف، وبالعنوان الذي يُخفي أكثر مما يُظهر. هذا ما تشير إليه أستاذة علم الاجتماع في جامعة UCLA، أليزا لِفت (Aliza Luft) في دراستها "نزع الإنسانية وتطبيع العنف" (Dehumanization and the Normalization of Violence)، إذ تقول: "الخطاب الذي ينزع الصفة الإنسانية يمكنه أن يمهّد الطريق للعنف، لكنه ليس شرطاً لوقوعه".
وتشير إلى أن التغيّر في الإدراك الاجتماعي الناتج عن هذا الخطاب هو ما يجعل القتل أسهل مع مرور الوقت، خاصة حين يُصبح الآخر مجرد "رقم" أو "تهديد". هذه العملية الإدراكية المدعومة بسرديات ثقافية عن "العدو"، تساهم في تبرير العنف لا شعورياً.
هذا التواطؤ لا يحدث من فراغ، فوسائل الإعلام تلعب دوراً حاسماً في إيصاله وتثبيته. يشير الصحافي البريطاني المتخصص في تحليل وسائل الإعلام التقليدية، ديفيد إدواردز (David Edwards)، في مقاله "تطبيع ما لا يمكن تصوّره: دور الإعلام في القتل الجماعي" (Normalising the unthinkable: The media's role in mass killing)، بوضوح إلى ذلك، قائلاً:
"الإعلام يجعل الجرائم التي لا يُعقل حدوثها تبدو طبيعية، لأنه يعرض أفعال المجرم ضمن سردية أيديولوجية تُبرّرها مسبقاً".
من خلال تكرار الصور المجتزأة، وإعادة تدوير مصطلحات نزع الإنسانية، مثل "دروع بشرية" أو "أهداف مشروعة"، تساهم التغطية السائدة في تسطيح المأساة وتحويل الإبادة إلى مشهد قابل للهضم.
وفي السياق الفلسطيني، تظهر هذه الممارسة في كل مرة يدور فيها الحديث عن قتل المدنيين وكأنه حدث جانبي، أو "خسائر غير مقصودة"، بينما يُسلّط الضوء بالكامل على جنسية الضحايا من الجانب الآخر، وقصصهم، وأحلامهم، وصور طفولتهم.
كيف وصلت الميديا الدولية إلى هذه الدرجة من الانحياز البنيوي؟ ولماذا يُمحى الفلسطيني من التغطية، مقابل إضفاء الطابع الشخصي الكامل على كل ضحية إسرائيلية؟ وهل ما يُسمّى بـ"الحياد الصحافي" اليوم، هو غطاء أخلاقي للاشتراك في الجريمة؟

استهداف المسعفين

في 23 مارس/آذار 2025، وقعت واحدة من أبشع الجرائم ضد الطواقم الطبية في رفح، حين قَتل جيش الاحتلال الإسرائيلي 15 مسعفاً من الهلال الأحمر الفلسطيني والدفاع المدني، إضافة إلى موظف في وكالة أونروا، في ثلاث هجمات متتابعة أثناء محاولتهم انتشال جثث من حي تل السلطان. بعد أسبوع، عُثر على جثثهم مدفونة في قبر جماعي.
كشفت وكالة أونروا تفاصيل الحادثة لاحقاً، مؤكدة أن أحد موظفيها، ويدعى كمال، خرج بسيارة تابعة للأمم المتحدة، يرتدي سترة بعلاماتها، لكنه فُقد لساعات. لاحقاً، وُجد جثمانه وقد ضُرب في مؤخرة جمجمته، مدفوناً إلى جانب المسعفين. ووصفت الوكالة ما جرى بأنه "إعدام ميداني"، مؤكدة أن طواقمها "ليست هدفاً"، مطالبة بتحقيق دولي مستقل في مقتل كمال وأكثر من 310 من موظفيها الذين قضوا في قطاع غزة.
من جهته، قال مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان إن ما حدث يُظهر "نمطاً مرعباً وممنهجاً" من استهداف عمال الإغاثة، وإن إطلاق النار على سيارات إسعاف تحمل شعارات واضحة يمثّل انتهاكاً جسيماً للقانون الدولي الإنساني، مطالباً بتحقيقات فورية في هذه الجريمة، مؤكداً أن القتل المتعمد للمدنيين، إذا ثبت، فهو جريمة حرب.
أما الجيش الإسرائيلي، فقد صرّح لوسائل الإعلام أن القتل ناتج عن سلسلة من "الإخفاقات المهنية"، مشيراً إلى أن أحد القادة سيُقال من منصبه. نقلت وكالة رويترز هذا التقييم في مقال نشرته في 20 إبريل/نيسان الماضي، مضيفة:
"قُتل 15 من المسعفين وعمال الإنقاذ في 23 مارس في ثلاث عمليات إطلاق نار متفرقة قرب رفح. وُجدت جثثهم بعد أسبوع في قبر جماعي بواسطة موظفين من الأمم المتحدة والهلال الأحمر الفلسطيني".
وزعمت إسرائيل أن الآليات الطبية "اقتربت من الجنود الإسرائيليين من دون تشغيل الأضواء الأمامية أو إشارات الطوارئ"، وأن المنطقة كانت "منطقة قتال نشطة"، وهذا ما نفاه الهلال الأحمر تماماً.
في السياق نفسه، أفادت وكالة أسوشييتد برس الأميركية، في تحقيق نشرته في 21 إبريل الماضي، أن التحقيق العسكري الإسرائيلي خلص إلى أن نائب قائد الكتيبة تصرّف بناءً على "افتراض خاطئ" بأن سيارات الإسعاف تابعة لمسلحي حماس، وأنه اتخذ قراره "في ظل ضعف الرؤية الليلية".
ووفق التقرير: "شعر القائد بأن قواته كانت مهدَّدة عندما اقتربت سيارات الإسعاف بسرعة من موقعهم، وخرج المسعفون منها لتفقّد الجرحى، ما دفع القوات إلى إطلاق وابل من الرصاص استمر أكثر من خمس دقائق مع توقفات قصيرة. بعد دقائق، أطلق الجنود النار أيضاً على سيارة تابعة للأمم المتحدة توقفت في مكان الحادث".
ورغم هذه التفاصيل، فإن "أسوشييتد برس" لم تستخدم في تغطيتها مصطلحات تشير إلى "إعدام ميداني" أو "جريمة حرب"، بل اكتفت بتوصيف تقني للحادث باعتباره "سلسلة من الإخفاقات المهنية"، حتى مع الإشارة إلى الغضب الدولي ووصف اللجنة الدولية للصليب الأحمر للحادث بأنه "الهجوم الأكثر دموية على طواقمها منذ ثماني سنوات". هذا التباعد بين الفعل ووصفه، يعكس إعادة تأطير للحدث بما يخدم رواية المؤسسة العسكرية، ويطمس أثره الإنساني في التغطية الإعلامية.
وفي تغطية مماثلة، نشرت "بي بي سي" تقريراً يحمل عنوان "الجيش الإسرائيلي سيقيل ضابطاً بسبب مقتل عمال الإغاثة في غزة" (Israeli army to sack officer over Gaza aid workers deaths). ورغم نقله عن تحقيق عسكري يعترف بمسؤولية الجيش عن إطلاق النار، فإن التقرير كرّس حيّزاً لتبرير السلوك العسكري. جاء في البيان الرسمي للجيش: "فتحت القوات النار معتقدة أنها تواجه تهديدَ قوات معادية، وقد أظهرت التحقيقات أن ستة من القتلى هم من عناصر حماس".
نقلت "بي بي سي" عن اللواء يوآف هار-إيفين، الذي قاد التحقيق، تأكيده أن الجيش سيُعلن لاحقاً عن أسماء عناصر حماس بين المسعفين. واستند التقرير إلى توصيف المنطقة بأنها "منطقة قتال عدائية وخطرة"، مشيراً إلى أن القائد الميداني اعتبر اقتراب المركبات بسرعة تهديداً مباشراً، وأن "ضعف الرؤية الليلية" حال دون التعرّف إلى المركبات، أي سيارات الإسعاف.
وأضاف التقرير أن إسرائيل "ادّعت في البداية أن القافلة اقتربت بتحرّك مشبوه في الظلام، من دون أضواء أمامية أو إشارات طوارئ، وأن حركة المركبات لم تكن منسّقة أو متفق عليها مسبقاً مع الجيش".
وفي محاولة لاحتواء الغضب، أُعلن عن "توبيخ" أحد الضباط المسؤولين بسبب "مسؤوليته العامة عن الحادث"، من دون أي التزام بمحاسبة جنائية.
هذا النمط من الخطاب الإعلامي لا يكتفي بتبرئة مرتكبي الجريمة، بل يشارك فعلياً في إعادة إنتاجها ضمن سردية عقلانية مفرغة من الأخلاق، تُقنّن القتل بدلاً من أن تُدينه. إنها جريمة تُرتكب في غزة، ثم تُدفن لغوياً في الإعلام.
تتناقض هذه الرواية التبريرية مع ما ينص عليه القانون الدولي الإنساني صراحة؛ فالمادة 15 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1949، والذي اعتُمد في الثامن من يونيو/حزيران عام 1977، تضع أساساً قانونياً واضحاً لحماية الطواقم الطبية المدنية، وتلزم أطراف النزاع باحترامهم، وتقديم كل ما يلزم لتمكينهم من أداء واجبهم الإنساني.

تشير الفقرة الأولى من هذه المادة إلى أن "الطواقم الطبية المدنية يجب احترامها وحمايتها"، وتضيف في فقرتها الثالثة أنه في حالة الاحتلال "يجب على السلطة القائمة بالاحتلال تقديم كل مساعدة ممكنة للطواقم الطبية لتمكينهم من أداء مهامهم الإنسانية، ولا يجوز إجبارهم على تنفيذ مهام تتعارض مع مهمتهم الإنسانية".
وتضمن لهم المادة حرية التنقل والوصول إلى الأماكن التي تقتضي الحاجة خدماتهم فيها، مع ما يلزم من تدابير أمنية، لكن من دون إعاقة مهمتهم أو تعريضهم للخطر.
بناءً عليه، فإن ما جرى في رفح من استهداف مباشر، وقتل، ودفن جماعي لأفراد معروفين بعلاماتهم الواضحة التي تميّزهم بوصفهم أطقماً طبية وإغاثية، لا يمكن تبريره بإخفاقات ميدانية، بل يرقى إلى انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني، ويُشكّل، بحسب التعريفات المعتمدة، جريمة حرب تستوجب المحاسبة.

الإبادة لغوياً

في حديث خاص إلى "العربي الجديد"، يصف الصحافي الفرنسي فرانك بارات، الذي عمل لسنوات مع شخصيات بارزة كنعوم تشومسكي وإيلان بابيه، دور الإعلام الغربي في تغطية ما يحدث في غزة بأنه ليس مجرّد تواطؤ، بل "تمكين مباشر للإبادة". يرى بارات أن القصة تبدأ بالتكرار: "الإعلام يعيد ويكرر الأكاذيب الإسرائيلية، رغم أنه يعرف أنها كاذبة. رأينا هذا مراراً، حين يكذب شخص مرة يمكن أن نشكّ فيه، لكن عندما يكذب خمس مرات، لا يعود ما يقوله يستحق النقل... إسرائيل كذبت مراراً، ومع ذلك، ما زالت روايتها تُنقل وكأنها موثوقة".
تكرار الأكاذيب، بحسب بارات، ليس تضليلاً وحسب، بل "تصنيع للقبول" بالقتل الجماعي؛ فحين يردد الإعلام السرديات نفسها، مثل عبارات "دروع بشرية"، و"أرقام من وزارة صحة حماس"، يتحوّل القتل إلى مشهد يمكن تصديقه، أو على الأقل تجاهله. يضيف: "حين أتحدث مع أشخاص بعيدين عن القضية الفلسطينية، أجدهم يرددون الدعاية كما هي. الإعلام جعلهم يرون في غزة مكاناً بلا تاريخ، بلا سياق، بدأ كل شيء فيه يوم 7 أكتوبر".
التمييز في تغطية الضحايا هو أحد أبرز ما يثير سخط بارات: "حين يُقتل إسرائيلي، تُروى قصته، نعرف اسمه، ملامحه، ماذا يحب، ما طموحه. أما الفلسطيني، فيُختزل إلى رقم. 15 قتيلاً، 30 جريحاً، 200 مدني. لا أسماء، لا وجوه، لا حكايات". هذا الاختزال، برأيه، يُجرّد الضحية من إنسانيتها، ويجعل قتلها قابلاً للتصوّر والهضم.
يُشدّد بارات على اللغة: "حين يُقصف مستشفى في غزة، لا يُقال إنها مجزرة، بل انفجار في مبنى. أما في الجانب الإسرائيلي، تُستخدم كلمات مثل ذبح، ومذبحة، وبربرية. الإعلام لا ينقل الحدث، بل يصنع سرديته الخاصة".

تظهر خطورة هذا الخطاب بوضوح في حادثة استهداف 15 مسعفاً في رفح، فأطّرت المجزرة بعبارات تقنية مثل "إخفاق مهني" و"سوء تقدير"، كما ورد في "بي بي سي" و"أسوشييتد برس"، بدل توصيفها بأنها جريمة حرب. هذه اللغة، وفق بارات، تقتل مرتين: مرة في الواقع، ومرة في الرواية: "الحياد هنا ليس موقفاً صحافياً، بل قناع يُخفي الجريمة".
وهنا يعيش الفلسطينيون في غزة تحت تعتيم عميق، وسحق منظّم وبنيوي تمارسه الآلة الإعلامية الدولية، من دون النظر إلى الحدود الإنسانية والقانونية والإعلامية. ظهرت أنياب الإعلام، وتحوّل من كونه سلطة رابعة إلى أداة جريمة، تدعم وتبرر وتخفي، لينام الضحايا في قبور جماعية، وتنهار الرقابة، ويصبح الدور الجديد هو شراكة في الجريمة، وإن ظهر ذلك برابطة عنق ومذيع أنيق يتحدث على الشاشة.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية