
بعد مرور قرنٍ ونيّف على نجاح الغرب في إنهاء ما سُمّيت "المسألة الشرقية"، عبر تفكيك الإمبراطورية العثمانية وإعادة تشكيل الشرق الأوسط بما يخدم مصالحه، يبدو أننا نعيش اليوم على أعتاب نسخة محدّثة من هذه المسألة، قد نسمّيها "المسألة الشرقية 2"، تتضّح ملامحها في حرب الإبادة والتطهير العرقي على غزّة، وتكثيف الاستيطان، وفرض الأمر الواقع في الضفة الغربية المحتلة، في محاولةٍ واضحةٍ لإنهاء القضية الفلسطينية تماماً بوصفها قضية تحرّر وطني، وفي ما تبعها من تصعيد في الجبهة الشمالية مع حزب الله، واستخدام فائق القوة الإسرائيلية لإنهاء وجود أيّ تهديد في الحدود الشمالية، والعدوان السافر على سورية بعد سقوط نظام الأسد، واستمرار العدوان واحتلال مباشر لأراضي سورية، واستخدام الحجّة الممجوجة "حماية الأقليات"، وصولاً إلى الضربات العدوانية التي طاولت العمق الإيراني، وذلك كلّه بغطاء أو شراكة أميركية مباشرة.
كانت المسألة الشرقية الأولى، التي شغلت أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، تتمحور حول سؤال: "ماذا نفعل بالإمبراطورية العثمانية المحتضرة؟"، وعبّر رئيس وزراء بريطانيا اللورد بالمرستون عن الرؤية الاستعمارية المبكّرة بقوله: "لا نريد أن نرى تركيا قويةً، بل نريد أن نراها قائمةً، ولكن عاجزةً"، وترجم انتصار بريطانيا وفرنسا في الحرب العالمية الأولى بتقسيم تركة "الرجل المريض" من خلال اتفاقيات استعمارية شهيرة، أبرزها سايكس بيكو (1916)، التي رسمت حدود النفوذ بين فرنسا وبريطانيا، ووعد بلفور (1917) الذي مكّن لاحقاً من إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، باعتبار المشروع الصهيوني جزءاً من أدوات السيطرة الغربية. لخّص المؤرّخ والمفكّر الفرنسي غوستاف لوبون هذا المنطق الاستعماري بعبارة لاذعة: "لم تكن مطامع أوروبا في الشرق لأجل التمدين، بل كانت غطاءً للنهب والسيطرة وتقسيم الغنائم". والحرب الإسرائيلية على غزّة والضفة الغربية، ومسار تفكيك الإقليم، ليسا معزولين عن هذا السياق الاستعماري المتجدّد، إنها في جوهرها محاولة لإعادة إنتاج الشرق في صورة تلائم إسرائيل والغرب، فالضربات على لبنان، وسورية، والعراق، وإيران، تجري كلّها تحت مظلّة واحدة، تفكيك القوى التي تشكّل محور مقاومة وممانعة للمشروع الغربي الإسرائيلي في المنطقة. لم يتوقّف سلوك الغرب الاستعماري لحظةً خلال القرن الذي انقضى، والجديد هو القناعة التي نجحت إسرائيل في ترويجها أن اللحظة مواتية، وهي فرصة سانحة، لحسم ملفّات عديدة سويةً، تشكّل المسألة الشرقية الجديدة.
الحرب الإسرائيلية على غزّة والضفة، ومسار تفكيك الإقليم، محاولة استعمارية متجدّدة لإعادة إنتاج الشرق بما يلائم إسرائيل والغرب
لم تكن إسرائيل مجرّد أداة استعمارية، بل أداةً ومشروعاً في آن. إنها مشروع استعمار استيطاني يسعى إلى التمدّد، ويدير مشروعاً طويل الأمد لتفكيك العالم العربي من الداخل. الحروب المتكرّرة، واتفاقيات التطبيع بما فيها اتفاقيات أبراهام، والتحالفات الأمنية والاقتصادية، ليست سوى أدوات تنفيذية لتحقيق هذا الهدف. الغاز والنفط هما خطوط الدم الجديدة، فبات من الواضح أن أمن الطاقة هو المحرّك الخفي خلف كثير من هذه السياسات. إسرائيل، والولايات المتحدة، وشركات الطاقة العالمية، تسعى إلى السيطرة على ثروات شرق المتوسّط والخليج، وتأمين طرق الإمداد نحو أوروبا، خاصّة بعد حرب أوكرانيا. وكما قال هنري كيسنجر مرّةً: "من يسيطر على النفط يسيطر على الأمم". ولهذا، القضاء نهائياً على القضية الفلسطينية بوصفها قضية تحرّر وطني، وتقسيم لبنان، وفي الحدّ الأدنى نزع سلاح حزب الله، وتحجيم سورية، بل وتقسيمها بين دويلات إذا أمكن، وإشعال حرب أهلية في العراق، كلّها تخدم هدفاً واحداً: هندسة شرقٍ أوسط جديد بلا قوى إقليمية منافسة.
لم يمت الاستشراق، تغيّرت صورته فقط، وكما قال إدوارد سعيد: "الاستشراق وسيلة لتبرير السيطرة من خلال إعادة إنتاج الشرق كائناً غير عقلاني يجب حكمه". ما نراه اليوم "استشراق عسكري أمني" يرى في كلّ مقاومة من الشعوب "الأصلانية" مشروعاً إرهابياً، وفي كلّ تطلّع للسيادة تهديداً لمصالح الغرب. كتب الصحافي البريطاني باتريك سيل في كتابه عن الأسد: "سورية حجر الزاوية في النظام الإقليمي، والسيطرة عليها تعني التحكّم في الشرق بأكمله". وإسرائيل تدرك ذلك جيّداً، وتسعى إلى تفكيك ما تبقّى من هذا "الحجر" التاريخي، حتى لا تقوم له قائمة.
وماذا بعد؟... ما يجري اليوم تجزئة المجزّأ وتقسيم المقسّم. والغرب، كما في القرن الماضي، يوظّف أدواته العسكرية والمعرفية والاقتصادية لإعادة رسم خريطة الشرق. لكن هل سينجح هذا المشروع؟ هل نحن أمام بداية الجولة الأخيرة أم في النهاية؟ وما هو دور الصمود والمقاومة ومعناهما في هذا السياق؟ التاريخ لا يعيد نفسه بالطريقة نفسها، والشعوب التي قاومت الاستعمار الأول، قادرة على إفشال مشروعه في نسخته الثانية.
لماذا لن تنجح "المسألة الشرقية 2"؟ قد يبدو للمراقب أن الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، يحاول تكرار نجاحه في "حلّ" المسألة الشرقية قبل قرن من خلال التفكيك، والهيمنة، وتقسيم النفوذ، وتوظيف المشروع الصهيوني رافعةً استعماريةً في قلب المنطقة. لكن ما يغيب من هذا المشروع، وما يجعله قابلاً للفشل رغم التفوق العسكري والتكنولوجي، هو تغيّر السياقات التاريخية والمعرفية والاجتماعية بشكل جذري، فأولاً، لم تعد الشعوب مُستعمَرةً، بل مدركة ورافضة في مطلع القرن العشرين، وكانت المجتمعات العربية تفتقر إلى أدوات التعبير الذاتي، ولم تكن تمتلك تنظيماتٍ جماهيريةً أو خطاباً تحرّرياً جامعاً. أمّا اليوم، فإن وعي الشعوب بمصالحها وبالهيمنة الخارجية أعمق بكثير، والدليل أننا من لبنان إلى العراق إلى غزّة نرى محاولات "إدارة الصراع" تفشل في إخماد جذوة المقاومة.
ورغم فشل أنظمة الدول القومية الناشئة على كلّ الأصعدة، وعجزها أو تهاونها في بناء دول مواطنين ديمقراطية، ورغم أنها حكمت شعوبها بالحديد والنار... رغم ذلك، نشأت طبقاتٌ وسطى حديثة ذات نُخب غير مندمجة في المشروع الغربي كما كانت قبل قرن، وكان جزءٌ كبير من النُّخب السياسية والثقافية العربية إمّا مندمجاً في المشروع الغربي أو متردّداً في مواجهته. اليوم، حتى النُّخب المُطبِّعة تجد نفسها في حالة قطيعة معرفية وشعبية، والخطاب السياسي الغربي فقد شرعيّته الأخلاقية. والتكنولوجيا ممكن أن تكون اليوم ضدّ الاستعمار، لا في خدمته فقط. في السابق، كانت أدوات السيطرة والتضليل الإعلامي حكراً على القوى الغربية. أمّا اليوم، فوسائل التواصل الاجتماعي، والفضاء الرقمي، والإعلام البديل، مكّنت الشعوب من فضح الأكاذيب وتشكيل سردياتها البديلة.
ما يجري اليوم تجزئة المجزّأ وتقسيم المقسّم. والغرب، كما في القرن الماضي، يوظّف أدواته العسكرية والمعرفية والاقتصادية لإعادة رسم خريطة الشرق
لم تعد الهيمنة الغربية مطلقةً. حلّت المسألة الشرقية الأولى في ظلّ تفوّق استعماري أوروبي كاسح، أمّا اليوم، فالعالم يشهد صعود قوى منافسة مثل الصين وروسيا، وتراجعاً في قبضة الغرب على النظام الدولي، ليس في مصلحة هذه الدول الصاعدة تقسيم الدول وخلق دويلات طائفية غير مستقرّة، بل بالعكس تماماً، ما يجعل فرض الحلول من جانب واحد مستحيلاً أو باهظ الكلفة. يعاني مشروع إسرائيل نفسه تناقضاً داخلياً، فرغم استعراض القوة، تعيش إسرائيل أزمةً استراتيجيةً غير مسبوقة، لأول مرّة تعتبر دولياً دولةً مارقةً، وتحاكم في محكمة العدل الدولية وزعماؤها مطلوبون لمحكمة الجنايات الدولية، هناك مأزق غزّة، وفقدان الردع، والاحتقان الداخلي، والفشل في التطبيع الشعبي رغم الاتفاقات الرسمية. والمقاومة اليوم ليست ظاهرةً محليةً، بل إقليميةً وعابرةً للحدود، لم تعد المقاومة محصورةً بجغرافيا واحدة. فالتحالفات الإقليمية بين قوى المقاومة تشكّل اليوم نقطة قوة تمتدّ من فلسطين إلى لبنان وسورية والعراق واليمن وإيران، وهي عصيّة على الاحتواء.
"قل لمن يدّعي في العلم معرفةً/ حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء"... ما يحاوله الغرب اليوم تكرار وصفة قديمة في زمن جديد. لكن "المسألة الشرقية 2" لا يمكن أن تُحل بذات العقلية الاستعمارية التي وضعت خرائط سايكس بيكو ووعد بلفور. لأن التاريخ لا يعيد نفسه إلا مهزلةً، ولأن شعوب هذه المنطقة دفعت ثمناً باهظاً لتكون اليوم أكثر وعياً واستعداداً، فإن الطريق لن تُفتح من جديد لمن أراد أن يعيدنا إلى زمن الوصاية والتقسيم والهيمنة، ولكن هذا يتطلّب استراتيجيات صمود ومقاومة، وهذا يعني تطبيق سياسات تنمية اقتصادية محلّية، وإتاحة التعليم، واحترام سيادة القانون وحقوق الإنسان ومساواة المرأة.
