
سيكون أمراً بالغ الصعوبة على الأجيال العربية المقبلة، أن تتصور طبيعة الدور العربي الرديء والرث في ما يخصّ غزّة، أو أن تجد له تفسيرات مفهومة. المقصود هنا الموقف من المأساة الإنسانية والمساعدة الإغاثية فحسب، وأقل بكثير من الدفاع والحماية أو دعم المقاومة، فلم يطلب الفلسطينيون سلاحاً أو صواريخ وقد صنعوا سلاحهم بأنفسهم، ولكنهم طلبوا كيس طحين وعلبة دواء لا أكثر.
كان كلام المتحدث باسم "كتائب القسام" أبو عبيدة، قاسياً حين وضع الحكام والنخب والكيانات العربية في خصومة أخلاقية وأمام مساءلة تاريخية، لكن هناك ما هو أقسى من ذلك، الإقرار بحقيقة أن القضية الفلسطينية باتت بالنسبة لعديد الأنظمة العربية، تشكل عبئاً سياسياً تسعى إلى التخلص منه، وبعضها معنيّ بتفكيك المسألة الفلسطينية أكثر من أعداء الحق الفلسطيني أنفسهم. عندما وقّعت "اتفاقات أبراهام" عام 2020، بررت دول التطبيع ومجموعة ما يعرف باجتماع النقب، المغرب والإمارات والبحرين ومصر، الخطوة بأنها ستساعد في الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، كان ذلك محاولة للتستر خلف غربال مثقوب، ولم يكن أي تقدير سياسي ليعطي هذا المبرر مصداقية واقعية، ليس لأن التطبيع مغالطة تاريخية بل لأنه مسار مؤدّ إلى تصفية القضية عبر أنظمة عربية فقيرة من حيث الموقف السياسي وغير قادرة حتى على تحصيل قرارها المستقل، فما بالك بتحصيل حق فلسطيني.
خلال السنوات الماضية كان هناك سعي واضح في بعض الدول العربية لتوفير كل عوامل تآكل الرصيد المعنوي للقضية، وتحييد كل الرمزيات التي تكرس الحق الفلسطيني لدى الأجيال العربية، وفي أوج المواجهة القائمة مع المشروع الصهيوني، تمنع سلطات بعض الدول العربية، وقفات تضامن مع الشعب الفلسطيني وتعتقل منظميها. حدث هذا في الجزائر بكل أسف (بحجة الترخيص)، وبات حمل العلم الفلسطيني ممنوعاً في الملاعب كما المغرب، ويتم في مصر ملاحقة ناشطين لصالح القضية الفلسطينية بنية الترهيب، وفي دولة الإمارات يمكن أن تطرد من الجامعة وترحّل فقط لمجرد الهتاف لفلسطين، ويتم تفكيك منظمات أهلية تعمل لصالح فلسطين في الأردن، وفي ليبيا منعت قوافل الصمود والإغاثة من العبور إلى رفح، وهذا المشهد السوريالي العربي رافقه تحوّل دول إلى دور الوساطة مثل قطر، وصعود نخب سياسية وإعلامية متماهية مع مشروع التطبيع كما في السعودية.
هناك فزع لدى النظام الرسمي العربي من لحظة شعبية منفعلة قد ترتد على الداخل، وسعي شمولي لكبح أي اندفاع مجتمعي لتفعيل المبادرات الشعبية تجاه المسألة الفلسطينية، والتي باتت تسبق الموقف والفعل النظام الرسمي العربي بخطوات، وتتوجه لابتكار إطار غير تقليدي للضغط وكسر الحصار الظالم، والإفلات بالتالي من عجز النظام العربي الرسمي عن إدخال كيس طحين إلى قطاع غزة، وهو عجز بالمناسبة ليس بجديد، ولا علاقة له بالتحولات والتغييرات التي حصلت في العقود الأخيرة، إنه عجز تقليدي ومكرس، لا يحتاج المقال إلى شواهد كثيرة، لقد تفرج العرب على دبابات شارون وهي تقتحم بيروت عام 1982، تماما كما يتفرجون في 2025 على إبادة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
