
سبّبت الحرائق الواسعة في ريف محافظة اللاذقية السورية خسائرَ فادحة، وطاولت البشر والبنية التحتية والبيئة الغابية والزراعية، وسط شكوك ترجّح أن تكون الحرائق في بعض المواقع مفتعلة.
اجتاحت موجة حرائق غير مسبوقة مساحات شاسعة من الغابات والمناطق الزراعية في ريف محافظة اللاذقية شمال غربي سورية في مطلع يوليو/تموز الحالي، والتي استمرت لمدة 12 يوماً متواصلة بالتزامن مع ظروف مناخية قاسية، مدمرة مساحات من أغنى مناطق الغابات والأشجار الحرجية ومحميات نادرة وأراض زراعية غنية بالأشجار المثمرة، في واحدة من أسوأ الكوارث البيئية التي تضرب سورية منذ سنوات.
وأعلن محافظ اللاذقية، محمد عثمان، أن الحرائق دمرت أكثر من 16 ألف هكتار من الغابات الحرجية، وسبّبت احتراق مئات آلاف الأشجار في مناطق تعتبر من أغنى الغابات السورية بالتنوع النباتي والحيواني، فضلاً عن تدمير 2200 هكتار من الأراضي الزراعية، وتضرر 45 قرية، فيما بلغ عدد العائلات المتضررة نحو 1200 عائلة، كما سجلت إصابات بين عناصر الإطفاء وبعض المدنيين من جراء الأدخنة والحرارة الناتجة عن الحرائق، من دون تسجيل وفيات مؤكدة.
وأعلنت محافظة اللاذقية تدمير شبكات كهرباء ومياه في بعض المناطق، وتضرر طرق رئيسية، أبرزها الطريق المؤدي إلى معبر كسب الحدودي مع تركيا، فضلاً عن انقطاع الاتصالات في عدة قرى جبلية بسبب ألسنة اللهب.
خسر السوري حسن قره علي، وهو من سكان قرية الدرة بريف اللاذقية، منزله وأرضه الزراعية التي تمتد على مساحة سبع دونمات، والتي زرعها قبل سنوات بالتفاح والدراق والخوخ والمشمش، وتحول إلى نازح يعيش في خيمة مع عائلته. ويقول لـ"العربي الجديد": "حالي مثل مئات السكان في القرى المدمرة الذين خسروا أرزاقهم ومنازلهم خلال هذه الحرائق التي لم أر مثلها في حياتي. المنازل المتضررة يمكن أن ترمم أو يعاد بناؤها، لكن الأراضي الزراعية والغابات المتضررة تحتاج إلى سنوات طويلة كي تعود إلى حالها الأول، وربما لا تعود أبداً. الكارثة كبيرة، ولا يمكن وصفها بالكلمات".
من جانبه، يؤكد مدير مديرية الساحل في الدفاع المدني السوري، عبد الكافي كيال، لـ"العربي الجديد"، أن "آلاف الهكتارات من المساحات الحرجية دمرت، إضافة إلى خسائر كبيرة في المنازل، وأدت الحرائق إلى خروج محطتي مياه بالكامل عن الخدمة، كما تعطلت شبكات الكهرباء في أكثر من منطقة، أبرزها بلدة قسطل معاف، ومنطقة زنزف. نحاول اتخاذ إجراءات لمنع تكرار هذه الكارثة، أبرزها تفعيل الإنذار المبكر حتى يتم الإبلاغ مبكراً عن أي حريق، وفتح خطوط النار في الغابات، وإقامة مناطق عازلة بين الغابات، مع الاهتمام بالمناطق الزراعية، والتأكيد على عدم إحراق العشب بالقرب من الغابات، وتشديد الإجراءات في محيطها، وتوعية الأهالي بالمخاطر".
يضيف كيال: "وضعنا بعض الخطط لإعادة إحياء المناطق المتضررة بعد الكارثة، لكن المنطقة حالياً بحاجة إلى فترة من الوقت، وإعطاء فرصة للأشجار المتبقية كي ترمم نفسها، وينبغي زراعة الكثير من الأشجار المناسبة لطبيعة المنطقة في فصل الشتاء، ومن بينها الغار والخروب والصنوبر، وتشجيع ودعم مزارعي المنطقة على العودة، ومساعدتهم في زراعة أراضيهم من جديد. طالبنا أيضاً بتفعيل (الشرطة الحرجية) في الفترة الحالية لحماية الغابات من أي تخريب، وعدم السماح للعاملين في المفاحم باستغلال الكارثة لتحصيل أرباح مادية".
ورغم شكوك متداولة بإمكانية أن تكون بعض الحرائق مفتعلة، ولا سيما أن سورية تشهد خلال الفترة الأخيرة الكثير من التجاذبات السياسية والطائفية، لم تعلن الحكومة السورية أية دلائل ملموسة تؤكد شكوك افتعال الحرائق. وقال وزير الزراعة السوري، أمجد بدر، في تصريحات إعلامية، إن "التحقيقات لا تزال جارية بشأن احتمال افتعال الحرائق، وهي فرضية قيد البحث، لكن لا توجد أدلة واضحة عليها. المؤكد أن ندرة الأمطار وسوء إدارة الموارد المائية فاقما موجة الجفاف".
وكان لافتاً ما أعلنته وزارة الدفاع السورية بعد أيام من إخماد الحرائق، إذ ذكرت أنها ضبطت مجموعة أثناء محاولتها إشعال حرائق في منطقة أحراش قرية المختارية بريف اللاذقية، فيما اعتبره البعض مؤشراً على افتعال الحرائق. من جهته، قال معاون وزير الطوارئ وإدارة الكوارث، أحمد قزير، إنه "رغم وجود مؤشرات تدفع إلى الاعتقاد بأن هذه الحرائق قد تكون مفتعلة، إلا أن الوزارة لا تملك أية أدلة قاطعة على ذلك"، مشيراً إلى أن "مسؤولية التحقيق بهذا النوع من القضايا تقع على عاتق وزارة الداخلية. توقيت الحرائق هذا العام يعد مبكراً مقارنة مع الأعوام السابقة، إذ غالباً ما تبدأ حرائق الغابات في أغسطس/آب أو سبتمبر/أيلول، وليس في شهر يوليو، خصوصاً أن درجات الحرارة لم تكن في ذروتها، وهذا قد يدعم فرضية الفعل المتعمد". بدوره، نفى وزير الداخلية السوري، أنس خطاب، في تصريحات لوسائل إعلام محلية، وجود أي دليل يشير إلى أن الحرائق كانت مفتعلة.
ويقول المهندس الزراعي عدنان حديد لـ"العربي الجديد"، إن "هناك جملة من العوامل المهمة التي تسببت في فداحة كارثة الحرائق، ومن بينها أنها وقعت خلال موجة حرّ شديدة راوحت درجات الحرارة خلالها بين 42 و46 درجة مئوية، كما تزامنت مع واقع جفاف غير مسبوق بعد شتاء قليل الأمطار، ما جعل الغطاء النباتي سهل الاشتعال، فضلاً عن رياح قوية ساعدت في انتشار اللهب على مساحات واسعة بسرعة فائقة".
يضيف حديد أنّ "وجود مخلفات حرب غير منفجرة أعاق عمل فرق الإطفاء، ووسع من نطاق الحريق، كما ساهم ضعف الإمكانات الفنية واللوجستية لأجهزة الإطفاء في اتساع رقعة الحرائق وعدم السيطرة عليها سريعاً، خاصة في المناطق الجبلية. لا يمكن أيضاً استبعاد وجود عامل بشري وراء اشتعال الحرائق، ربما للانتقام من الحكومة السورية، أو من سكان المنطقة، فنحن نعيش في جو مشحون طائفياً، أو ربما حتى لأغراض اقتصادية مثل التحطيب أو الفحم، أو بغرض تهجير السكان، أو التغطية على قضايا أخرى سياسية".
وتشكل غابات اللاذقية 31% من مساحة الغابات في سورية، وقدرت السلطات الخسائر بنحو 6% من الغطاء النباتي الإجمالي. ويرى المسؤول السابق في حراج اللاذقية، عبد الله خليلو، أن خسارة مساحات كبيرة من الغابات يهدد التنوع البيولوجي في المنطقة. ويوضح لـ"العربي الجديد"، أن "الحرائق ستؤثر مباشرة على التربة، وعلى المياه الجوفية، وتدمير الغطاء النباتي يمكن أن يزيد من احتمالات التصحّر في مناطق واسعة إن لم تبدأ جهود إعادة التشجير فوراً. ينبغي أيضاً تفعيل برامج التوعية البيئية، ومنع التحطيب الجائر، وغيره من الأنشطة المخالفة لسلامة الغابات، وتعزيز الإمكانات الفنية لفرق الإطفاء، وتأمين طائرات خاصة بالإطفاء الجوي".
وعقب إخماد جميع الحرائق، طالب أهالي القرى المتضررة، وغالبيتهم مزارعون باتوا نازحين، الحكومة السورية بضرورة الاستجابة لتداعيات الكارثة سريعاً، وإقرار تعويضات تمكنهم من العودة إلى قراهم، وإعادة زراعة أراضيهم.
يقول المزارع السوري عبد الرحيم أبو كف، وهو أحد المتضررين، لـ"العربي الجديد"، إنه نزح مع عائلته إلى مدينة اللاذقية، ويقيم حالياً في منزل أحد أقاربه، لكنه لا يملك المال لإعادة ترميم منزله المدمر في القرية. ويناشد الحكومة تحمل مسؤولياتها لأن التبعات كانت كارثية على الأهالي، وبعضهم خسروا كل أرزاقهم، ومعظمهم حالياً نازحون، والبعض كانوا نازحين لسنوات، وعادوا إلى مناطقهم بعد إسقاط نظام الأسد.
ورغم مرور أسبوع على إخماد الحرائق، لم تعلن الحكومة السورية بعد أية إجراءات حول صرف التعويضات للمتضررين، لكن وزير الطوارئ، رائد الصالح، قال في تصريحات صحافية إن "الحكومة تدرس تعويض المتضررين". وتعتبر غابات اللاذقية أحد أهم الوجهات السياحية في سورية، وهي تضم محمية الأرز والشوح بناحية صلنفة، والمصنفة من بين أكبر المحميات الطبيعية في الشرق الأوسط، وتضم تنوعاً نباتياً وحيوانياً فريداً، فضلاً عن محمية الفرنلق التي تمتد على السفوح الغربية لجبل الأقرع، وتتداخل مع حدود لواء إسكندرون في تركيا.
