
لطالما تفاخرت البلدان الأوروبية بعدد السياح الأجانب الذين يزورونها، وبما يمثّله هؤلاء من مصدر دخل رئيس، وأمل في إنعاش سوق العمل. غير أن الضيف الأجنبي الذي يحمل العملة الصعبة ليس هو الزائر الوحيد الذي يعبر حدوداً، هناك أيضاً مهاجرون يأتون من الضفة الجنوبية للمتوسط، على متن قوارب متهالكة، يهربون من الحروب، والجوع، والقمع. هؤلاء لا يُستقبَلون بذات الحفاوة، بل يواجَهون بالجدران، والأسلاك، وخطابات الرفض، والمعسكرات المؤقتة.
ضمن هذا السياق تضع أستاذة الأخلاق والفلسفة السياسية في جامعة فالنسيا عديلة كورتينا كتابها "الأبوروفوبيا: رُهاب الفقر ورفض الفقراء.. تحدٍّ من أجل الديمقراطية"، الصادر حديثاً بطبعة عربية عن "مرفأ للثقافة والنشر" في بيروت، أنجزها المترجم أحمد نور الدين الرفاعي، في محاولة لقراءة الوجه المسكوت عنه في علاقة المجتمعات الأوروبية بـ"الآخر"، والتي تنضاف إلى سلسلة من "الفوبيات".
تشير كورتينا إلى أن الرفض ليس للغريب بحد ذاته، وإنما للفقر الذي يحمله معه. إن ما يُخيف الناس ليس جنسية اللاجئ، بل عوزه. هذا التحليل يُبعدنا عن المقاربات الثقافوية المنتشرة في أوروبا لظاهرة المهاجرين "غير الشرعيين"، خاصة مع تنامي خطاب اليمين العنصري، ويقرّبنا من فهم اقتصادي عميق. بل إن المؤلّفة تذهب أبعد من ذلك حيث تؤكّد أنّ ما يُرحَّب به في الأجنبي هو قدرته على الإنفاق، لا اختلافه الثقافي، وفي هذا الإطار، تتناول مصطلح الأبوروفوبيا، أي رهاب الفقر، لفهم جذور هذا النفور الذي يتخفّى أحياناً وراء شعارات أمنية أو قومية.
نفور من وضع الفقراء الاجتماعي يتخفّى وراء شعارات أمنية أو قومية
تجمع كورتينا، في ثمانية فصول، بين التحليل الفلسفي العميق، والواقع السياسي والاجتماعي الملموس، لتظهر أن القيم الديمقراطية التي ترفعها المجتمعات الحديثة على لوحاتها الجدارية، لا تصمد كثيراً أمام اختبار الفقر. يتناول الكتاب موضوعات عدّة تبدأ بـ"آفة بلا اسم"، مروراً بـ"جرائم الكراهية ضد الفقراء" و"خطاب الكراهية"، قبل أن يتعمق في فهم ظاهرة "أدمغتنا المصابة برهاب الفقر (الأبوروفوبيا)" و"الضمير والسمعة". كما يسلط الكتاب الضوء على قضايا متقدمة مثل التحسين البيولوجي الأخلاقي والقضاء على الفقر والحد من عدم المساواة، ويستعرض الجهود والخيارات السياسية الممكنة للخروج من دوامة الإقصاء الاجتماعي. ويختتم الكتاب بفصل بعنوان "الضيافة العالمية"، الذي يقدم نداءً إنسانياً وأخلاقياً يدعو إلى استعادة تقليد الضيافة كقيمة مركزية لبناء عالم أكثر عدالة وشمولاً.
تنطلق كورتينا، المولودة في بلنسية عام 1947، من خلفية أكاديمية راسخة في الأخلاق والفلسفة السياسية، وتملك سجلّاً علمياً حافلاً، فقد درست في جامعات ميونخ وفرانكفورت، وعملت أستاذة زائرة في جامعات مرموقة مثل لوفان، وأمستردام، وكامبريدج، ونوتردام. وهي أول امرأة تنضم إلى الأكاديمية الملكية للعلوم الأخلاقية والسياسية في إسبانيا، وحازت جائزة المقال الوطني عام 2014 عن مجمل أعمالها في الفلسفة الأخلاقية التطبيقية.
