
يأتون خِفافاً كنسمة، ثمّ يرحلون بثقل الجبال. لا يطلبون الإذن، ولا يتركون اعتذاراً خلفهم. يأخذون ما ليس لهم؛ وقتك وطاقتك وفرحتك، وأحياناً يقتطعون قطعةً من قلبك، ثمّ يمضون كأنّهم لم يكونوا. الأسوأ من ذلك؟ أنهم يظنون أن كلّ ما فعلوه لا يتجاوز بضع لحظات ضاعت، وكأن الزمن عندنا أرخص ممّا يستحقّ، وكأنّ الخسارة تُقاس بالدقائق لا بالجراح النازفة.
تعيش معهم وهماً اسمه الأمل. تعتقد أن الخير فيهم كامن، ينتظر فقط لحظة صدق كي يفيض، فتمنحهم من عمرك ومن قلبك، وهم في المقابل لا يمنحون سوى الخيبة. تحاول أن تقنع نفسك أنهم لم يقصدوا إيذاءك. فهم لم يعرفوا فقط كيف يحبّون وكيف يقدّرون وكيف يحافظون. تعذرهم لأنك لا تريد أن تصدّق أن هناك من يستطيع أن يؤذيك بهذا البرود كلّه، وبالتجاهل والهدوء المُرعب. ثمّ تستيقظ ذات يوم وتكتشف أنك كنت تحارب وحدك، وتعطي وحدك، وتصبر وحدك، وأنك كلّما ظننت أنهم معك كانوا في مكانٍ آخر تماماً.
نعم، هناك أناسٌ سرقوا من أعمارنا، ولا أقصد سرقة اللحظات فحسب، بل سرقة الطمأنينة، والرضا الذي كان في قلوبنا قبلهم. قبل أن نلتقيهم كنا نضحك من قلوبنا، ونحبّ ببراءة، ونصدّق بسهولة، وننام من دون وجع في القلب. وبعدهم؟... أصبحنا نحسب الكلمات ونُراجع النيات، ونُخفي مشاعرنا، ثمّ نُغلق الأبواب بإحكام. لم يعودوا في حياتنا، لكن آثارهم ما تزال هنا. كلّ شيء تغيّر بعدهم، حتى نحن.
البشر الذين يمرّون في حياتنا ولا يتركون سوى الألم لا يُنسون بسهولة. لأنهم لا يأخذون وقتاً فحسب، بل يغيّرون ملامح أرواحنا. يجعلوننا نشكّ في أنفسنا وأحلامنا، وفي قدرتنا على أن نكون محبوبين بلا شروط. بعضهم لم يكن شرّيراً بالضرورة، لكنّه أنانيٌّ أو مهملٌ أو غير مبالٍ. وهذه الصفات تكفي وحدها لتحطيم قلب من أحبّ بصدق. لم يطلبوا أن يدخلوا حياتنا، ولم نطلب منهم أن يخرجوا منها على هذا الشكل، لكنّهم فعلوا، وكأنّنا كنّا محطةَ انتظار في طريقهم، وكأنّ مشاعرنا مجرّد تفاصيل ثانوية في حكايتهم.
أقسى ما في الأمر ليس الرحيل، بل طريقته. الصمت الذي يسبق النهاية والبرود الذي يرافقها وعدم الالتفات إلى الوراء، كأنّ شيئاً لم يكن، كأنّك لم تُحبّ، ولم تنتظر ولم تُرهق ولم تُجرَح. المؤلم أنهم لا يعلمون، أو لا يريدون أن يعلموا، أن الذي يُمنح من القلب ليس "وقتاً" فحسب، بل عمراً لا يُعوّض. وأنك حين تحبّ بصدق فإنك تُعطي جزءاً منك، قطعة لا تعود، مهما طالت الأيام.
لكنّنا لا نستطيع أن نُعيد عقارب الساعة، ولا أن نمحو آثارهم من الذاكرة. ما نستطيع فعله هو أن نتعلم فقط. لا، ليس أن نُغلق قلوبنا، بل أن نُحسن اختيار من نفتح لهم الأبواب، وأن نُدرك أن الحبّ لا يكفي إن لم يكن مُتبادلاً، وأن النيّة الطيبة لا تشفع لأحد إن كانت نتائجها مؤذيةً. أن نعرف أننا نستحقّ من يعرف قيمتنا، لا من يُهدرها بلا وعي.
نعم، سامحنا بعضهم، لا حبّاً فيهم، بل حبّاً في أنفسنا، لأننا لا نريد أن نحمل غلّاً في قلوبنا. لكننا لم ننسَ، ولن ننسى. لا لأننا نُحبّ الحزن، بل لأننا نُحبّ الحقيقة، والحقيقة أن بعضهم كان درساً قاسياً، وجرحاً بليغاً، وتغييراً لم نطلبه. واليوم، كلّما تذكّرناهم، لم نَبكِ كما كنا نفعل، بل نُومئ لأنفسنا بأننا تعافينا. تجاوزنا، كبرنا، وأصبحنا نعرف الفرق بين من يستحقّ عمرنا، ومن لا يستحقّ دقيقة منه. أصبحنا نعرف أن الحياة قصيرة، والفرح نادر، وأن القلب ليس دار ضيافة لكلّ عابر سبيل. تعلمنا ألا نندم على الحبّ، لكن أن نندم فقط على من منحناه لمن لا يقدّر.
لذا، إن عادوا يوماً، فلن يجدونا حيث تركونا. لن يجدوا ذاك القلب المكسور، ولا ذاك الانتظار الحزين. سيجدون شخصاً آخر، أقوى وأنضج وأكثر وعياً وأشدّ حرصاً على ألا يُسرق من عمره أي لحظة مهما كانت.

أخبار ذات صلة.
