
يشير عنوان هذه المقالة إلى عنوان المذكّرات التي أصدرها الباحث ووزير الاقتصاد والمالية في حكومة التناوب (1998-2002)، فتح الله ولعلو. ونتصوّر أن صدورها اليوم، في جزئين كبيرين (400 صفحة)، يؤشّر إلى إمكانية الاقتراب من وقائع وأسئلة حول التجربة وما تلاها، والاقتراب أيضاً من معطيات سياسية عديدة ذات صلة بالعهد الجديد، من دون أن ننسى الصلة التي ربما رُتّبت داخل أبوابها في موضوع مسارات وتحوّلات الحركة الوطنية المغربية، والجناح التقدّمي داخلها، بحكم ارتباط مُعدِّها منذ الستينيّات بالحركة الوطنية التقدّمية، فاعلاً ومتفاعلاً مع مختلف تحوّلاتها.
إذا كنّا نعرف أن قادة الحركة الوطنية المغربية لم يتركوا مذكّرات تساعد في فهم جوانب من أسئلة هذه الحركة وأنماط كفاحها ضدّ الاستعمار، وكذا طبيعة العلاقة التي نسجها روّادها في ما بينهم، ومع النظام الملكي منذ الثلاثينيّات، فإن صدور مذكّرات بعض مناضلي الجيل الثاني يمكن أن يسعفنا في معرفة بعض الأمور المرتبطة بالماضي والحاضر. وضمن هذا الأفق، استقبلنا مذكّرات فتح الله ولعلو، وتساءلنا إذا كانت قراءته تجربة حكومة التناوب التوافقي قد استوعبت بعض الإجابات عن أسئلة التجربة وأسئلة الحزب.
صاحب المذكّرات سليل أسرة ارتبطت، مثل عديد من أسر الأربعينيّات، بالحركة الوطنية ورموزها وشعاراتها، فقد وجد نفسه، عندما التحق بالجامعة في بداية استقلال المغرب، منخرطاً في الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، كما ساهم في تأسيس الجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني، وظلّ طوال مساره السياسي وفياً لقيم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ثمّ الاتحاد الاشتراكي، ومن دون إغفال أدواره الجامعية والبحثية، فساهم مع مجموعة من زملائه في وضع درس الاقتصاد وتطويره في الجامعة المغربية الفتية.
تاريخ الحركة الوطنية المغربية لم يُكتَب بعد، كما أن تاريخ الحركة الاتحادية التقدّمية داخلها لم يُنجز
أفترض أن مذكرات ولّعلو، الحاملة عنوان "زمن مغربي، مذكرات وقراءات" (أعدّها للنشر لحسن العسبي، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء 2025)، ستساهم في إضاءة كثير من صوّر الغموض التي ملأت (ولا تزال) مشهدنا السياسي والحزبي. ولأن صاحبها كان وزيراً للاقتصاد والمالية في حكومة التناوب برئاسة المرحوم عبد الرحمن اليوسفي، فإنني أتصوّر أنها يمكن أن تجعلنا نقترب من بعض الإشكالات المرتبطة بموضوع انتقال اليسار المغربي من المعارضة إلى تدبير السياسات العامّة، وقد تُقرّبنا أيضاً من جوانب أخرى لها علاقة بمآلات حزب الاتحاد الاشتراكي اليوم.
بادرت مؤسّسة عبد الرحيم بوعبيد، التي يرأسها الأديب ووزير الثقافة في حكومة التناوب محمد الأشعري، إلى تنظيم ندوة في السادس من الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، عن المذكّرات بحضور صاحبها، ومساهمة الإعلامي يونس مسكين. تحدّث الأشعري ساعةً عن المذكّرات، توقف فيها أمام بعض معطياتها، محاولاً إبراز أهم القضايا التي تثيرها، ولأنه يرتبط مثل صاحب المذكّرات بتاريخ حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ومساره قبل حكومة التناوب، زمن المعارضة، ثمّ زمن حكومة التناوب وبعدها، فقد تصوّرنا أن الأمر سيكون سهلاً، بحكم أن الأحداث والسياقات والأسئلة تكاد تكون واحدةً، إلا أن الأمر لم يكن كذلك.
حَرِصَ الأشعري على تذكير الحضور بأهمية كتابة المذكّرات، وهو يعرف أن تاريخ الحركة الوطنية المغربية لم يُكتَب بعد، كما أن تاريخ الحركة الاتحادية التقدّمية داخلها لم يُنجز، وقد غاب رموز هذه الحركة من دون إنجاز تشخيص نقدي لمسارات أجيالها. وضمن هذا الأفق، حاول في بداية كلمته الإشارة إلى بعض خصال الأخ فتح الله ولعلو الأخلاقية والسياسية، لينتقل إلى إبراز جوانب من التقاطع بين رؤيته لبعض الوقائع والأسماء ورؤية صاحب المذكّرات في زمن ساهما فيه معاً في الحزب والحكومة في صناعة وتأطير كثير من الخيارات والمواقف، كما عاينا جوانب أخرى من صوّر علاقتهما بالنظام السياسي المغربي، واشتركا معاً في مواصلة العمل الحكومي إلى حدود سنة 2007، بعدما استُبدل عبد الرحمن اليوسفي بإدريس جطو سنة 2002.
أفترض أن مذكرات فتح الله ولعلو ستساهم في إضاءة كثير من صوّر الغموض التي ملأت (ولا تزال) المشهد السياسي والحزبي في المغرب
يبدو لكلّ من استمع لمداخلة الأشعري أن الطريقة التي بلور بها صاحب المذكّرات نمط قراءته وسرده الأحداث تختلف في بعض أوجهها عن صوّر الفهم المستقرّة في ذهن الأشعري، وقد وضّح ذلك في الجمل التي حرص فيها على تذكيرنا بوطنية ولعلو، وولائه الكبير لعبد الرحيم بوعبيد، على خلاف تصوّرات ومواقف اتحادية أخرى، الأمر الذي أشعر كلّ من كان يستمع لملاحظاته بأن مقصّ القراءة الذي كان في ذهنه، وبين أصابعه، يكشف (أحياناً) بحذرٍ كثير بعض جوانب المستور في بنية حزبية أقرب ما تكون إلى البنية العائلية، بنية الحشمة وغض الطَّرف، والانتباه إلى ضرورة الحرص على نوع من الولاء لقيم الكفاح الوطني من أجل الاستقلال، بكلّ ما لها وما عليها، أي بكلّ ما ارتبط بها من مواقف وصراعات، نفترض أنه آن أوان معرفة حدودها ومحدوديتها. فهل قدمّت المذكّرات ما يسمح بذلك؟
تذكّرت وأنا أستمع لمداخلة الأشعري، بكلّ ما حاولتْ أن تضع يدها عليه، في موضوع تجربة حكومة التناوب، وقد مرّ عليها اليوم ما يقرب من عشرين سنة، وبكلّ ما حاول الاقتراب منه في التجربة الحزبية، وتذكّرت أن اتحاد كتّاب المغرب نظّم ندوةً يوم 20 سبتمبر/ أيلول 2007 لتقييم الانتخابات التشريعية التي مرّت في السنة نفسها، قَدَّمْت فيها ورقةً عنوانها ورطة التناوب التوافقي، وطوال متابعتي ما دار في حلقة تقديم المذكّرات، شعرت بهذه الورطة مجدّداً. كان محمد الأشعري يكتفي بالتلميح والإشارة، وعاينت كيف عبّر فتح الله ولعلو في أثناء تعقيبه عن جوانب من حتمية المسار الذي حصل، وصعوبته في الآن نفسه.
لم يتردّد الأشعري في إعلان جوانب من اختلافه مع بعض ما جاء في المذكّرات، في موضوع النظر إلى أسماء ووقائع ومعطيات، إلا أنه لم يكن يذهب بعيداً في النظر إلى ما حصل، بحكم أنه يعتبر نفسه طرفاً مشاركاً في الورطة التي حصلت، وأتصوّر رغم أهمية العرض الذي قدّمه أنه لم يتمكّن من قول ما ظلّ عالقاً في ذهنه وحلقه. ومن استمع إليه، سيتذكّر جملاً قويةً وردتْ في نهاية كلمته، فأعلن بوضوح أن "الأخطاء كانت كثيرةً في حياتنا الحزبية وفي تجربتنا الحكومية، والحديث عنها بنوع من الجرأة تمرين ضروري لإنتاج المعرفة بتاريخنا السياسي، وإنارة طريق المستقبل".

أخبار ذات صلة.


