
"إذا ماتت فلسطين، تموت الإنسانية، ولن نترك فلسطين تموت". بهذه العبارات أعلن الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو، الذي استضافت بلاده أخيراً مؤتمر مجموعة لاهاي لدعم فلسطين، قطع بلاده العلاقات مع إسرائيل، وذلك في مايو/ أيار 2024، رفضاً لحرب الإبادة في غزة. في ذلك الوقت، كانت دولة جنوب أفريقيا تواجه بدورها هجوماً سياسياً من دول عدة، ومقاومة غربية داخل أروقة محكمة العدل الدولية، لرفعها دعوى ضد إسرائيل، وبعدها بأشهر عدة، أصدرت الجنائية الدولية مذكرتي اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير الأمن السابق يوآف غالانت. هذا كلّه فضلاً عن الحراك الشعبي الذي يقوده نشطاء حول العالم لإبراز مجازر ووحشية الاحتلال ورفضاً لها، وهي كلّها، إلى جانب أخرى كحركات المقاطعة والضغط لمنع التسليح، حراكات تواجه أيضاً بمقاومة شرسة من إسرائيل وعرّابيها الدوليين، وآخر أوجه ذلك فرض إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب عقوبات على المقررة الخاصة المكلّفة بالتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية فرانشيسكا ألبانيز، والتي يعدّ صوتها من بين الأصوات الأكثر صدحاً في انتقاد الاحتلال بكل أوجهه في فلسطين.
إذاً هي جهود فردية ودولية ومجتمعية مُبعثرة، لكنها متشابهة وحاسمة في مقارعة الدعم الغربي (والصمت العربي العام) لجرائم الاحتلال، وتُستكمل اليوم باجتماع وزاري طارئ لـ"مجموعة لاهاي"، المؤلفة من ثماني دول، والتي أبصرت النور في 31 يناير/ كانون الثاني 2025 في مدينة لاهاي بهولندا. الاجتماع حضره ممثلون عن 30 دولة، في العاصمة الكولومبية بوغوتا، وعُقد على مدى يومين، أمس الأربعاء وأول من أمس الثلاثاء، بهدف الخروج بقرارات تأخذ الشعارات إلى موضع التنفيذ، ولا تبقى حبراً على ورق كما يقول المجتمعون الذين قرّروا عقد اجتماعات على مدى الأسبوع الحالي بأكمله، في محاولة لرسم خريطة طريق لتنفيذ القرارات، ومتابعة سبل دعم الغزّيين الذين يواجهون حرب تجويع وتهجير وقتل مستمرة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
تريد المجموعة الدفع بالالتزام بمذكرات التوقيف الصادرة بحق نتنياهو وغالانت
الجنوب العالمي في مجموعة لاهاي
وتكمن أهمية "مجموعة لاهاي" ليس فقط في أنها منصة دولية لدعم فلسطين، بل تعكس تصميماً من قبل دول بالجنوب العالمي على الوقوف في وجه مخططات الاستعمار الحديث بكل أوجهه، وما يحصل في فلسطين هو أحد تجلياته الدائمة منذ عقود. هذا الموقف جعل الإدارة الأميركية برئاسة دونالد ترامب، المنحازة لإسرائيل بشكل كامل، بل التي تستغل ما يسمّيه الاحتلال إنجازاته في المنطقة منذ السابع من أكتوبر 2023، لفرض أشكال جديدة من الهيمنة في الشرق الأوسط، تعلّق على الاجتماع باعتباره معارضاً للأجندة الغربية، بل تهدّد باستهدافه.
وتتألف "مجموعة لاهاي" من ثماني دول، هي كولومبيا وجنوب أفريقيا وكوبا وبوليفيا وناميبيا والسنغال وماليزيا وهندوراس، وتقول على موقعها الإلكتروني إنها "كتلة عالمية ملتزمة باتخاذ إجراءات قانونية ودبلوماسية دفاعاً عن القانون الدولي، وتضامناً مع الشعب الفلسطيني". وناقش الاجتماع خلال اليومين الماضيين خطوات عملية لتنفيذ قرار كان قد صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة (في سبتمبر/ أيلول 2024)، يدعو الدول الأعضاء إلى اتخاذ إجراءات ملموسة لدفع إسرائيل نحو إنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية، وفقاً للرأي الاستشاري الصادر عن "العدل الدولية" في يوليو/ تموز 2024. وقبيل الاجتماع الذي شارك فيه السفير الفلسطيني في الأمم المتحدة رياض منصور، اعتبرت ألبانيز أنه الأهم الذي يجري دعماً لفلسطين خلال الأشهر الـ20 الماضية. وأدارت الاجتماع كل من كولومبيا وجنوب أفريقيا، وحضره مسؤولون أمميون وممثلون عن 30 دولة، من بينها الصين وقطر وتركيا والجزائر وإندونيسيا وإسبانيا والبرازيل وأيرلندا، بهدف بلورة خطة عمل تشمل تدابير سياسية واقتصادية وقانونية للضغط على إسرائيل. وعنه، قال أيضاً الرئيس الكولومبي قبيل انعقاده إن هذا التحرك يمثل انتقالاً من "الإدانة الكلامية" إلى "التحرك الجماعي الفعّال"، لوقف ما وصفه بـ"العدوان المستمر". ورأى بيترو، في مقال رأي نشره في صحيفة ذا غارديان البريطانية، في الثامن من يوليو الحالي، إن "حكومات مثل حكومتي، عليها واجب الوقوف في وجه إسرائيل، ولا تملك ترف البقاء بموقف سلبي"، رغم إقراره بأنه سيواجه انتقاماً من الدول الداعمة لإسرائيل. وتواجه جنوب أفريقيا، بالفعل، رد فعل إدارة ترامب، التي حرمتها من مساعدات أميركية، وفتحت في وجهها ملفات عدة، من بينها الزعم بارتكاب السلطات في جنوب أفريقيا تمييزاً بحق مواطنيها البيض.
كلّ ذلك لم يمنع المؤتمر من الانعقاد، أول من أمس، للمرة الأولى، وعلى أجندته ثلاثة محاور للعمل: العمل للدفع بالالتزام بمذكرات التوقيف الصادرة بحق نتنياهو وغالانت، ومنع تزويد إسرائيل بالسلاح، ومنع السفن المرتبطة بالجيش الإسرائيلي من الوصول إلى موانئ فلسطين المحتلة. وقال نائب وزير الشؤون المتعددة الأطراف في كولومبيا موريسيو جاراميلو، في تصريح عبر الهاتف لصحيفة "إل باييس" الإسبانية، إن "أحد الإجراءات التي نهدف للوصول إليها هو عرقلة بعض الشحنات التي تسمح لإسرائيل بمواصلة الحصول على معدات الحرب"، مضيفاً أن "ما نريد هو استمرار تطبيق الضغط لعزل إسرائيل وإيقاف معاقبة الفلسطينيين". وشدّد على أن الأمر "لا يتعلق فقط بفلسطين، بل بحماية القانون الدولي وحقّ تقرير المصير".
فرانشيسكا ألبانيز: كل دولة ينبغي عليها مراجعة وتعليق كل ارتباطاتها بإسرائيل، وضمان أن يقوم قطاعها الخاص بالمثل
إبادة لا لبس فيها
من جهتها، قالت ألبانيز، أول من أمس، أمام الحضور في بوغوتا إنه "حان الوقت للأمم حول العالم من أجل اتخاذ خطوات ملموسة لوقف الإبادة في غزة"، لافتة إلى أن "كل دولة ينبغي عليها مراجعة وتعليق كل ارتباطاتها بإسرائيل، وضمان أن يقوم قطاعها الخاص بالمثل". وشدّدت على أن "الاقتصاد الإسرائيلي مصمّم لدعم الاحتلال الذي تحول اليوم إلى حرب إبادة". أما وزيرة الخارجية الكولومبية روزا يولاندا فيلافيسينسيو، فأكدت أن جرائم الاحتلال في غزة تشكّل "إبادة لا لبس فيها".
وحول الآمال التي يمكن تعليقها على المؤتمر، رأت ساندرا بوردا، الأستاذة في العلاقات الدولية في جامعة لوس أنديز في بوغوتا، في حديث لوكالة "أسوشييتد برس"، أن "الولايات المتحدة فشلت حتى الآن في التأثير على سلوك إسرائيل، لذا من السذاجة التفكير بأن المجموعة يمكنها ممارسة أي تأثير على (رئيس حكومة الاحتلال بنيامين) نتنياهو أو على حكومة إسرائيل"، لكنها اعتبرت أن مؤتمر مجموعة لاهاي سيمكّن بعض الدول في الجنوب العالمي "من توضيح موقفها تجاه الصراع وجعل أصواتها مسموعة".
لا يحظى المؤتمر بطبيعة الحال برضا أميركي. وفي بيان رسمي تلقاه موقع "دروب سايت" الأميركي المتخصّص بالتحقيقات الاستقصائية والمعارض لسياسات ترامب، قال مسؤول في وزارة الخارجية الأميركية إن "الولايات المتحدة تعارض بشدّة أي جهود لما تسمى الكتل متعددة الأطراف من أجل استغلال القانون الدولي سلاحاً لتقديم الأجندات الراديكالية المعارضة للغرب". وأضاف: "ما تسمى مجموعة لاهاي، التي تقودها جنوب أفريقيا وكوبا، وهما دولتان لديهما نظام مستبد وشيوعي، بسجلين مقلقين لحقوق الإنسان، تحاول إضعاف سيادة الدول الديمقراطية عبر محاولة عزل ونزع الشرعية عن إسرائيل، مهيئة بذلك بشكل واضح الأرضية لاستهداف الولايات المتحدة والجيش الأميركي وحلفائنا". وأضاف: "الولايات المتحدة ستدافع بقوة عن مصالحها، وجيشها، وحلفائها، بما فيهم إسرائيل، بمواجهة هذا العمل الحربي المنسق على الصعيدين القانوني والدبلوماسي". وبحسب الموقع، فإن آنيل شيلين، وهي مسؤولة سابقة في وزارة الخارجية كانت قد استقالت من منصبها في مارس/ آذار 2024 رفضاً للإبادة في غزة، حضرت مؤتمر بوغوتا، مشدّدة في تصريح للموقع رداً على التهديدات الأميركية، على أن الدول المشاركة "هي دول ذات سيادة، ولديها كل الحق في التعبير عن التزاماتها باعتبارها دولاً أعضاء في منظمة الأمم المتحدة، بما في ذلك الالتزام باتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.
(العربي الجديد)
