عن أزمة الدولار ومستقبل العملات العربية
عربي
منذ 12 ساعة
مشاركة

هناك عدد من الدول العربية التي تربط سعر صرف عملتها المحلية بالدولار الأميركي (Pegging). ومن هذه الدول الأردن والمملكة العربية السعودية وسلطنة عمان ودولة قطر والإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين. أما دولة الكويت فقد تخلت عن ذلك وربطت سعر صرف الدينار الكويتي بسلة عملات.

وفي الفترة التي بدا فيها الدولار مهيمناً على كثير من المعاملات الدولية التي تقاس قيمتها به، فقد بقيت أسعار صرف العملات العربية المرتبطة به ثابتة. وساهم ذلك في إبقاء معدلات الزيادة السنوية في الأسعار معقولة إلى حد كبير، مما حقق استقراراً نقدياً في كثير من الدول.

وقد استخدم سعر الفائدة من المجلس الاحتياطي الفيدرالي "البنك المركزي الأميركي" باستمرار بين الرفع والتخفيض وسيلةً لتحقيق الاستقرار النقدي. وقد كان ذلك مهماً للولايات المتحدة التي لا تعتبر الدولارات الأوروبية أو الدولارات المتداولة خارج الولايات المتحدة جزءاً من الدين العام الأميركي لأنها لا تتدخل في أسعاره أو في تنظيم المعروض منه والطلب عليه.

وبالمقابل، فهي تعتبره جزءاً من الأرصدة النقدية المتاحة للمستثمرين في المحافظ المالية وجزءاً من مسؤولية السلطات المعنية في أي دولة غير أميركا. بمعنى آخر، إن الولايات المتحدة التي تخلت عن قاعدة استبدال الدولار بالذهب عام 1973، تخلت أيضا عن مسؤولياتها تجاه من يحملون عملتها خارج الولايات المتحدة.

والسؤال القانوني الذي قد يثور في المستقبل هو: هل تستطيع الدول التي يحمل مواطنوها الطبيعيون والمعنويون الدولار كجزء من محافظهم مطالبة الولايات المتحدة بأن تشتري تلك الدولارات مقابل عملات أخرى أو مقابل أرصدة أخرى؟ والسؤال اللاحق هو: هل تضع الولايات المتحدة مستقبلاً إجراءات تحول دون قيام الأميركان بشراء اليورو دولار، مما يُحَمِّل أصحاب تلك الدولارات الخسائر الناجمة عن تصفير تلك الموجودات.

ولكن هذا التحليل لا ينطبق على أدوات الدين العام الذي يحمله الأجانب مثل السندات والأذونات الحكومية. ولهذا فإن أي مخاوف على مستقبل الدولار قد تدفع حامليه إلى البحث عن ملاذ آمن مثل الذهب. وإن حصل هذا فإن سعر الذهب سيقفز قفزات كبيرة بالدولار ويؤدي إلى انخفاض سعر صرف الدولار حيال العملات الرئيسية الأخرى.

أما البديل الثاني فهو أن يقوم حملة الدولار باستبداله بأدوات دين تصدرها الخزانة الأميركية مثل الأذونات والسندات بكل أنواعها. ودعونا نتساءل معاً: ولماذا يريد الرئيس الأميركي، بل ويضغط باستمرار على رئيس البنك الاحتياطي الفيدرالي، جيروم باول، لكي يقوم بتخفيض أسعار الفوائد مرة واحدة بمقدار 100 نقطة أو واحد بالمائة بدلاً من ربع الواحد أو نصف الواحد في المائة؟ لكن رئيس البنك المركزي لا يفعل ذلك بحجة أن تخفيض أسعار الفائدة سوف يفتح الباب على ارتفاع كبير في معدلات التضخم، وقد يكون تخفيض سعر الفائدة ذا أثر إيجابي على الإنفاق في المدى القصير، ويبقي كلفة الاقتراض منخفضة نسبياً. ولكنه في المدى الطويل يرفع الأسعار بشكل عام، مما يجعل من المستحيل إبقاء أسعار الفوائد منخفضة، بل ستشتد المطالبة بإعادة رفع أسعار الفائدة لكبح جماح التضخم ويصبح رفض التجاوب مع هذه المطالب خطأ فادحاً.

لكن الرئيس دونالد ترامب ينطلق في مطالبته بتخفيض سعر الفائدة على الدولار من زوايا مختلفة عن اعتبارات جيروم باول ومساعديه. فهو ينظر إلى الدين العام الأميركي فيرى أنه قد وصل إلى حوالي 36.6 تريليون دولار، أو ما يساوي 124% من الناتج المحلي الإجمالي، ويرتب أعباء على الموازنة لخدمة الدين العام تفوق تريليون دولار في العام. وهناك قرارات تقول إن أعباء هذا الرقم سوف تفوق 2 تريليون في العام خلال عشر سنوات.

بمعنى آخر، فإن مقدار الفوائد السنوية التي ستتكبدها الخزينة قد يصل إلى ما بين 15 و18% من مجموع الإنفاق في الموازنة العامة الأميركية وهي تقريباً نسبتها الآن. ولكن تنامي المبلغ يقلق الأميركان وتقدر نفقات الخزينة الأميركية يومياً بحوالي 2.6 مليار دولار يومياً.

لهذا نرى الحزب الجمهوري المحافظ يتابع برنامج الرئيس ترامب في تخفيض الضرائب وتقليل الإنفاق، خاصة الطبي والتعليمي، من أجل تقليل كلفة الدين العام. ولكن كل هذه الإجراءات والقوانين التي يتابعها الرئيس ترامب سوف تزيد عجز الموازنة الأميركية خلال السنوات العشر القادمة بمقدار 3.6 تريليونات دولار.

إذن، خلال السنوات القادمة ستضطر الخزينة لمزيد من الاقتراض. ومن أجل مواجهة ذلك فهو يسعى إلى تقليل كلفة خدمة الدين العام إلى الحد الأدنى الممكن. الخيارات التي تواجهها الولايات المتحدة ليست سهلة، بل صعبة، لذلك نرى الرئيس يحرص على إعادة الصناعات للولايات المتحدة.

ويريد تخفيض العجز التجاري الأميركي الذي وصل إلى 918.4 تريليون دولار عام 2024 أو بزيادة 133.5 ملياراً عن العام الذي سبقه 2023. ومن هنا نرى سياساته المتقلبة حيال الدول التي تستجيب معه مقابل تلك الأقل استجابة. ولكن سواء نجحت مدرسة ترامب في الاعتماد على القطاع الخاص الأميركي أو سياسة الاحتياط الفيدرالي، فإن هناك مخاطر في أي منهما. ولو أضفنا إلى ذلك كله احتمالات انتهاء عصر العملات الورقية وصار معظم التعامل الدولي بالعملات الإلكترونية ( Digital Currencies).

يثور السؤال: هل سيتحقق حلم الماليين أمثال بنجامين فرانكلين وجون كينز بخلق عملة دولية موحدة، أم هل سيكون هناك عالم متعدد العملات؟ وبحسب كثير من المحللين، فإن المعركة القادمة هي تكنولوجية حتى النخاع.

والدول التي تستطيع أن توفر الخدمات المطلوبة لصنع أشباح تتحرك عبر الموجات الإلكترومغناطيسية بسرعة الضوء هي التي ستقوم بتنظيم الحسابات لكل موضع، وستقوم بإجراءات المقاصة بين هذه الحسابات كلما أُجريت بين اثنتين منها أو أكثر معاملات تتطلب نقل العملات من حسابات إلى أخرى، لذلك فإن المتفوق من الدول في إجراء هذه الخدمات بالسرعة والدقة المطلوبتين هو الذي سيفوز بذلك.

والدولتان المرشحتان لهذه الترتيبات ولديها المنصات المطلوبة (Platforms) لهذا الجهد الجبار هما الولايات المتحدة عبر مايكروسوفت وأبل، والصين عبر شركة علي بابا. وستكون هناك دول مساندة في تقديم خدمات مثل اليابان (خاصة الحواسيب خارقة السرعة) وغيرها من الدول. ومتى ما حصل ذلك واستقر الأمر عليه، فإن أميركا سوف تخسر مصدر دخل مهما جدا وهو ما يسمى (ربح إصدار العملة) أو (Seigniorage).

وكل دولة تصدر عملة تربح الفرق بين كلفة طباعة ورقة العملة والقيمة الاسمية لتلك الورقة. والدولار يحقق أرباحاً بالمليارات (لا أحد يقدم أرقاماً محددة) من وراء طباعة الأوراق النقدية وصك العملات المعدنية. وإذا وصلنا إلى اقتصاد (Cashless) أو اقتصاد ليس فيه تبادل للعملات الملموسة فإن مصدر الدخل السينيوريج سوف يتبخر.

والسينيوريج هو الفرق بين القيمة الاسمية للنقود، سواء الأوراق النقدية أو العملات المعدنية، وكلفة إنتاجها. لذلك، أتوقع أن المنافسة بين الصين والولايات المتحدة هي على من سيقوم بالمقاصة بين الحسابات الدولية وسوف يقاضي رسوماً ستعود عليه بأرباح وفيرة مهما كان معدل الرسم منخفضاً بسبب حجم المعاملات اليومية التي قد تصل إلى أكثر من 2 تريليون معاملة.

أمام كل هذه الحقائق وما يجري من حرب تجارية وحرب عملات وحرب نفوذ وحرب تكنولوجيا ومن حروب بالإنابة مستعرة، هل يبقى العرب متمسكين بالدولار بافتراض أن لديهم الخيار في ذلك؟ إن هذا السؤال بحد ذاته صعب ولن أحاول الإجابة عنه هنا. ولكن السؤال الأكثر إلحاحا هو ماذا على الدول العربية التي تربط عملاتها بالدولار الأميركي أن تفعل إن تعرض الدولار لهزة أو نجحت سياسة الرئيس ترامب في تقليل الفوائد والأرباح المتحققة للمستثمرين والمدخرين بأدوات نقدية دولارية؟

كنت أرجو أن تتحرك المنظمات العربية الموازية مثل صندوق النقد العربي والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي من أجل التفكير في هذه المواضيع حتى يطمئن الشعب العربي.

ومن تجربتي الخاصة ومن تجوالي في الدول العربية فإن كثيرين يتساءلون: ماذا سيحصل لعملتنا المربوطة بالدولار لو تراجع سعر صرف الدولار؟ ويمضون في القول إنه ربما يكون تخفيض الدولار مفيداً للاقتصاد الأميركي ولكنه قد يكون ضاراً بالاقتصادات العربية؟ ليس بالضرورة أن يكون ارتباط أي عملة بالدولار ثابتا كسعر محدد جامد غير قابل للمرونة والحركة.

ويمكن لأي عملة عربية أن يُسمح لها بالتذبذب في سعر صرفها حيال الدولار بين ناقص 2% وزائد 2%، ما يتيح للسلطات النقدية المرونة الكافية للتعويض عن تراجع سعر صرف الدولار، ما يجعل إجراء رفع صرف العملة المحلية حيال الدولار إلى الحد الذي يكبت احتمالية ارتفاع الأسعار على المواطنين والعكس صحيح. المطلوب من الدول العربية أن تبحث إجراءات نقدية مقبولة عالميا ولا تثير مخاوف الأميركان، من أجل استخدام سعر الصرف وسعر الفائدة وأدوات الدين العام بحيث تتمكن هذه الدول من الحفاظ على استقرار نقدي في ظل الظروف القادمة.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية